الإنسان ذلك الكائن العجيب، صندوق يحوي كنوزا نفيسة، وجواهر ثمينة، ولآلئ نادرة، ومن المحال أن يفتح هذا الصندوق ليأخذ كل من هب ودب مما حواه، أو أن يهمل فيكون عرضة للسرقة، فهذا يأباه عقل العاقل، بل لا بد من العناية به، والحفاظ عليه لتستقيم حياته، ويهنأ عيشه. إنَّ الإنسان مفطور على أشياء كثيرة، رُكِّب عليها، وهي ما يسمى ب الفطرة، فالفطرة: هي ما جُبل عليه الإنسان في أصل الخلقة من الأشياء الظاهرة والباطنة، تلك الأشياء التي هي من مقتضى الإنسانية، والتي يكون الخروج عنها أو الإخلال بها خروجًا عن الإنسانية، أو إخلالاً بها. تبقى تلك الأشياء التي فطر عليها ابن آدم كامنة في داخله، ويجد في نفسه إلحاحا شديدا لسماع ندائها، فيحاول جاهدا تلبية رغباتها، فينشأ عنده ميل إلى شيء معين، فيقوم بفعل ما ليترجم ذلك الكمون فيظهر ويتجلى للعيان. من تلكم الأمور التي فُطِر عليها الإنسان التدين، فالإنسان خُلِق ضعيفا يحتاج إلى آلهة أقوى منه، تهيمن عليه، فيتوجه إلى معبود يسد فقره، أيًّا كان هذا المعبود، سواء كان بحق أو بباطل، يلجأ إليه في السراء والضراء، بحيث تسكن روحه الفزعة، وتخبت نفسه الهلعة، وما هذا الفعل والسلوك إلا ليلبي حاجة تلك الفطرة الإنسانية من حب التعبد والتذلل والتقرب، إنها استجابة فعلية عملية لنداء التدين الفطري. لذا لم تخلُ حقبة من التاريخ إلا وكان الإنسان فيها يعبد إلها معبودا بحق أو بباطل، كمن عبد النجوم والكواكب والحيوانات والأصنام فأخذ يتقرب إليها ليحوز على رضاها، مع يقينه بأنها لا تسمع ولا تبصر، ولا يستفيد منها نفعا ولا ضرا، لكنه يشعر حينا أنها تقربه زلفى إلى إله آخر لتبدأ سلسلة من المعبودات الباطلة التي توصل إلى الإله الحق ظنا من هذا الإنسان أنها تشفع له في طريق تقربه إلى الإله الحق، وحينا يلتمس معبوده في شيء ملموس محسوس مادي طبعي فهو لا يؤمن بالغيب، ظنا منه أن هذا هو إلهه مع يقينه بأنه لا ينفع ولا يضر لكنه يحاول أن يطمس تلك الفطرة حينا ويمسخها حينا آخر ويحورها في أحايين أخر، فيتذرع بأنه ألفى آبائه لها عابدين فهو مقتفي بآثارهم، لتبقى حاجته الفطرية ملحة للبحث عن الإله الحق . لقد ناضل الإنسان عن آلهته أيا كانت هذه الآلهة معبودة بحق أو بباطل التي عبدها ردحا من الزمان، وحورب وعذب وقتل وبذل روحه ونفسه قربانا للآلهة فلم يتخلَ الإنسان عن فطرة التدين أبدا. لذا فإن كل من يحاول أن يتنكر لهذا النداء الفطري الجبلي الإنساني بإنكاره للإله أو الاستهزاء به فهذا يعني أن به خللا في فطرته، أي أن فطرته غير سوية، فقد تكون انتكست أو مسخت أو طمست بتزيين شيطاني رجيم، فهو يزخرف القول ويغرر بعقل الإنسان فهذا ديدنه، أو بصنم المادة الذي فتن به الكثيرين بعد إطلاق العنان للعقل والبعد عن الوحي المبين، والصراط المستقيم. إنَّ فطرة التدين الملحة لم تترك سدى، بل جاءت تلبية ندائها بأن أرسل الله تعالى الرسل وأنزل الكتب، لتستقيم حياة البشرية حيال الاستجابة لذلك النداء الفطري، فعبادة الله الواحد الأحد هي الغاية من خلق ذلكم الإنسان، فأصبح الإنسان يلبي ندائها مستجيبا لأمر الله تعالى، وإن أصابها شيء من رجس عبادة الوثن أو سطوة الغفلة بُعِث الأنبياء والرسل مبشرين ومنذرين ومذكرين لها بعبادة خالقها وفاطرها وهو إيقاظ لملكات الحس والفكر والعقل والوجدان لذلكم الإنسان ليحصل له اليقين الذي لا شك فيه ولا لبس، لتستقيم حياته. إن نداء الفطرة يظل ملحا داخلنا بضرورة التدين لله تعالى، ومظهر هذا النداء في الاستجابة بعبادة الله وحده لا شريك له، وإن كنا لا ندرك كنه هذا الإله، فثمة أمور نقر بضرورة وجودها وأثرها ولا ندركها بأبصارنا كالروح التي تسكن أبداننا، ويتمايز بها الأحياء عن الأموات، وكالنفس التي تقطن جنباتنا فتحب وتكره ، كالعقل الذي نفكر به، ونفترق به عن البهائم، كالكهرباء التي تضيء لنا نشاهد أثرها ولا ندرك حقيقتها! إنه نداء الفطرة المتمثل في قوله تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (الروم:30). و قوله صلى الله عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة» فهلاَّ استجبنا لذلكم النداء؟!