يقول فيليب حتي في كتابه «تاريخ العرب» الذي (نقله إلى العربية محمد مبروك نافع) إن نظام القبيلة هو الأصل في المجتمع البدوي، وإن العصبية القبلية بمثابة الروح لهذا النظام، وهي تدل على مدى ما يحمل الفرد لأفراد قبيلته من ولاء لا حد له وغير مقيد بشروط، وهي تقابل عموماً الوطنية من الصنف الحاد الذي تغلب فيه العنجهية، وإن هذه العصبيات لم تختف إلا في فترة الفتوح الإسلامية الأولى، حين اكتسحت الروح الدينية كل شيء، ولكن عندما استقرت الأمور كشفت العصبيات عن نفسها. وينقل حتي عن أبو الفدا كيف أن منطقة دمشق كانت ذات يوم مسرحاً لحرب قاسية، ظلت زهاء عامين، لأن «معدياً» اختلس بطيخاً من بستان «يماني»، كما أن سالت الدماء سنوات عدة في مدينة مرسيا في الأندلس، لأن «مضرياً» التقط ورقة عنب من بستان يمني. والنسابون، كما بيّن شوقي ضيف في كتابه «الشعر في العصر الجاهلي» يقسّمون القبائل إلى قسمين كبيرين: قسم عدناني ينحدر من قحطان، وهاجر هذا القسم من الجنوب، من اليمن وحضرموت. ومن يرجع إلى الشعر الجاهلي يجد فيه الفخر باليمنية والقحطانية والعدنانية والمضرية، كما يجد فيه العصبيات مشتعلة بين القبائل على أساس الاشتراك في الدم وفي أب واحد وفي أم واحدة... وهذه الأنساب كان يؤمن بها العرب إيماناً شديداً، وظلوا على هذا الإيمان في الإسلام، فتكتلوا على أساسها في مجموعتين كبيرتين: مجموعة قحطانية يمنية ومجموعة مضرية عدنانية، وكان التنافس شديداً بين الطرفين، وكثيراً ما جرّ إلى منازعات في الكوفة والبصرة، كما جرّ إلى حروب في الجيوش المقاتلة في أقصى الشرق وفي خراسان وفي أقصى الغرب في الأندلس، فكانت عشائر كل فريق تتجمع حين تصطدم مصلحة عشيرة يمنية بمصلحة عشيرة مضرية، وسرعان ما تنشب بين فريقين معارك دامية حتى على البطيخ والعنب! وهكذا كان الانتماء إلى القبيلة وترسخت عصبية القبيلة: إني امرؤ من عصبة مشهورة حشد لهم مجد أشم تليد ونعطي العشيرة حقها وحقيقها فيها ونغفر لذنبها ونسود. وإذا كان لنا أن ننتقل من العصر الجاهلي البعيد إلى تاريخ قريب، فأنظر لمحة من مطاحنات القبائل كما أوردها عبدالله بن خميس في كتابه «المجاز بين اليمامة والحجاز»: «وفي القرن ال11 امتد نفوذ قبيلة «عنزة» على نجد، وحلت محل «بني لام» في القوة والمنعة وبعد الصيت، وبقي ظلمهم ممتداً على هذه الأصقاع طيلة القرن ال11، وفي القرن ال12 نازعتهم قبيلة «مطير» النفوذ، ونشبت بينهم حروب، امتدت إلى نهاية القرن ال12 وفي النهاية كانت الغلبة لقبيلة «مطير»، ودار الزمان دورته، وانقلبت الأيام، ودالت على «مطير» بمنازع جديد انحدر إليهم من الحجاز ومن تهامة، وهم قبيلة «قحطان» التي طوت نفوذ قبيلة «مطير»، وأزاحتها من قلب نجد، وعظمت زعامتها، وحابتها القبائل، وطلبت ودّها... ثم أدرك قبيلة «قحطان» ما أدرك القبائل التي قبلها، وبُليت بمنازع جديد هو قبيلة «عتيبة»، فلم تلبث هذه حتى تكاثرت، وقويت شوكتها، وانبسط نفوذها. ودارت رحى الحرب بين «عتيبة» و «قحطان»، تذكيها الثارات، وتأججها الأشعار، وتزيد على مر الأيام قوة وعنفواناً، تصحبها النقائض والتهاجي. وتبوأت «عتيبة» سنام «نجد»، وأخذت تغير على «قحطان» تارة وعلى «مطير» تارة أخرى وعلى «حرب» ثالثة، ويقول شاعرها: «يا نجد ما والله نزلناك بسلوم * ولا أنت بورث جدودنا في القدايم/ خذناك عقب مدارك العمر بالسوم * سوم يخسر لابسات العتايم/ وا نجد أخذنا منك حق ومرسوم * وصفى جنابك عقب نظل العماين». ويورد حسين بندقجي في «أطلس المملكة العربية السعودية» خريطة توضح توزيع القبائل في المملكة في الوقت الحاضر، وتلحظ أكثر من أربعين قبيلة، منها: الحويطات، بنو عطية، بلي، جهينة، حرب الجحادلة، بنو هلال، رجال ألمع، الجعافرة، حاشد، بنو مفيد، ربيعة، ورفيدة، بالأحمر، بالأسمر، بنو شهر، بالقرن، غامد وزهران، الثلاوي، ثقيف، مالك هذيل، بنو رشيد، هتيم، عنزة، ولد سليمان، غزة، بني وهب، الشرارات، العمارات، عنزة الرولة، عنزة (ولد علي)، شمر، مطير، عتيبة، ثقيف، البقوم، شمران، شهران، آل مرة، بنو يام، قحطان، الدواسر، سبيع، العجمان، مطير. القبيلة إذاً جزء من تراث هذا البلد، والعصبية للقبيلة من خصائصه الاجتماعية، وإن كان التناحر الحربي بين القبائل اختفى منذ تأسيس المملكة كوحدة سياسية واحدة، فهل ضعف الانتماء القبلي؟ وهل اضمحلت عصبية القبيلة كدافع اجتماعي محرك؟ ونحن في معترك ترسية مفاهيم الوطن والوطنية في أطرها الإسلامي، هل يقف مفهوم القبيلة حجر عثرة أمامنا؟ البعض يجيب بالإيجاب، وينظر الى القبيلة على أنها بقية من بقايا مجتمع المشاعية البدائية، إذ كانت كل قبيلة تشكل مجتمعاً قروياً مكتفياً بذاته، وقائماً على أساس علاقات القرابة والدم. والقبيلة لا تمثّل حالاً فطرية أو أزلية، فهي - كما يذهب بعض الدارسين - ظاهرة ذات تاريخ، بمعنى أنها ظهرت في مرحلة من تاريخ البشر، ووفق شروط محددة من حياتهم، وظهورها وزوالها مرتبط بالدرجة الأولى بمستوى تطور الإنتاج... وأن النظام القبلي مرتبط بالتخلف والحياة البدائية أينما كانت، وليست له علاقة بالخصائص الطبيعية لأي شعب من الشعوب، فجميع شعوب العالم، كالإنكليزي والفرنسي والروسي وغيرهم كانت عبارة عن قبائل وعشائر قبل آلاف السنين، لكنها تجاوزت هذه المرحلة قبل حوالى 2000 سنة أو أكثر أو أقل من ذلك، وأنه إذا كنا اليوم نرى المستشرقين وعلماء الآثار الأوروبيين يقومون بالأبحاث والدراسات عن بلدان الشرق وأحوالها، ويهتمون كثيراً بدرس عادات القبائل وتقاليدها في هذه البلدان وفي أواسط أفريقيا، فإن واحداً من أهدافهم الأساسية من وراء هذا هو أن يكتشفوا أنفسهم، وكيف كانوا يعيشون في أوروبا قبل آلاف السنين من خلال دراسة حياتنا نحن في الوقت الحاضر. إن متغيرات الحياة الحاضرة من اختلاف وسفر وظهور المدن وغيرها تؤدي في نهاية المطاف إلى زوال القبيلة كمؤسسة، لكن هذا لا يعني زوال الأفكار والمفاهيم والتقاليد القبلية، فهذه تستمر طويلاً في عادات الناس ونظراتهم، وأنه إذا تركت هذه المسألة للتأثيرات الحضارية وحدها وللتطور الطبيعي وحده، فإن هذا سيستغرق وقتاً طويلاً طويلاً. ما هي بعض مظاهر السلوك القبلي الذي يجب التخطيط من أجل التخلص منه؟ تذهب بعض الدراسات إلى أن أهم ذلك: - نظرة الاحتقار إلى العمل اليدوي، فالإنسان القبلي يعيش عادة على الطبيعة، وتتولد لديه نظرة الاحتقار للأعمال اليدوية والمهنية، وبالذات تلك التي تبدو في ظاهرها كأنها عبارة عن خدمة للآخرين. وأن الإنسان القبلي يهتم عادة بمظهر العمل الخارجي أكثر مما يهتم بقيمته الحقيقية أو بمدى مردوده عليه أو على المجتمع أو على المنظمة. لهذا فهو يفضل الأعمال التي تضفي عليه مظهراً خارجياً، يوحي بالقوة أو يوحي بأنه آمر أو متنفذ... ومن هنا نستطيع أن نفهم إقبال رجل القبيلة على مهنة السياقة مثلاً. فالسياقة «قيادة» أو العمل كشرطي، لأن الشرطي ذو مظهر محترم، يصدر الأوامر ويتحكم في حركة السير بكاملها. - الإحساس المفرط بالكرامة الشخصية: الإنسان القبلي لا يضع في الواقع فاصلاً بين كرامته الشخصية وكرامة القبيلة بكاملها. وترتفع الكرامة الشخصية لدى الإنسان القبلي إلى المرتبة الأولى، وبعدها يمكن أن تأتي القضية التي يناضل من أجلها - التنمية مثلاً - ثم تأتي المبادئ، ثم تأتي القوانين، وأية مسائل أخرى من هذا القبيل... وإن الإفراط في الإحساس بالكرامة الشخصية على الطريقة القبلية يكاد لا يترك لدى الإنسان القبلي حتى مكاناً للإحساس بكرامة الوطن. - الإفراط في الكرم، فالإنسان القبلي كريم جداً، ولم تكن القبائل في الغالب تملك شيئاً في الأصل من أجل تخزينه للمستقبل، وهي لم تتعود أصلاً على أن تنظر إلى المستقبل. والإنسان القبلي كما يرى في الشؤون العامة شؤونه الخاصة، فهو أيضاً، والى حد ما، يرى في الملكيات العامة ملكياته الخاصة، مثلما كان يرى في الملكيات العامة في القبيلة، وهي الأرض والمراعي والحياة، ملكياته الخاصة أيضاً... - الميل إلى الحسم والبت في المسائل، أياً كان نوعها، فإذا لم يكن البت السريع بالطريقة الصحيحة ممكناً، فليكن البت السريع ولو بطريقة خاطئة، فالقبائل لم تتعود على أن تناقش كثيراً، ولا أن تحقق كثيراً، ولا أن تضع حلولاً ذات مدى طويل من أي نوع كان. - القبلي لا يرى حرجاً في أخذ ما للغير، فلقد ترسبت هذه المسألة في أعماقه على أنها عمل من أعمال الجرأة والشجاعة والذكاء. في الماضي، كانت القبائل تدخل حروباً طاحنة بين بعضها بعضاً، فقط بدافع النهب والسلب، وفي الوقت نفسه، فإن القبلي عندما يرى أنه في موقف اختبار لشهامته وكرامته، فليس لديه مانع بأن يتكرم بكل ما قد وضع يده عليه، وفوقه الكثير مما يملك. - القبلي يميل إلى العصب للمجموعة التي يعيش معها... التي ينسجم معها... التي يرتاح معها، والتي تتعصب معه هي الأخرى، لأن هذه المجموعة تحلّ في أعماق نفسه وفي شعوره الداخلي محل القبيلة أو العشيرة، التي ينتمي إليها، وكان يعيش معها في الماضي القريب. - الإصرار على الرأي، وعدم التراجع عن الخطأ، لأن القبيلة عادة تقدس القوة والإصرار والعناد تقديساً مجرداً، وبصرف النظر عن الموضوع والنتائج. - القبلي إنسان شديد الحساسية، وهو لا ينسى الإهانات، ولا المحاسبات ولا الانتقادات الشديدة، التي تمت في حقه، سواء أكانت صحيحة أم خاطئة، وهذه الحساسية من بقايا عقلية الثأر الذي تتوارثه القبيلة جيلاً بعد جيل. - القبلي إنسان عاطفي للغاية، وسريع التأثر، وحتى المسائل العامة والقضايا الكبرى تظل بالنسبة إليه متأثرة إلى حد كبير بالجوانب العاطفية في شخصيته، فهو يصدق بسرعة كبيرة جداً، ويكذب بسرعة كبيرة جداً، يعطي ثقته الكاملة لأتفه الأسباب، ويوافق بسرعة، ويعارض بسرعة، ويحدد مواقف من قضايا كبيرة لأسباب بسيطة. - المساواة المطلقة. لأن النظام القبلي يقوم في الأساس على التخلف في مستوى الإنتاج وعلى عدم وجود فوارق في ملكية الأرض، وبالتالي بقاء الجميع من دون استثناء عند مستوى منخفض وموحد من المعيشة، إلا أن هذه المساواة «الداخلية» المتشددة تقيم تراتبية واضحة بين القبائل، أي أن شعور المساواة الذي يكنّه القبلي لأفراد قبيلته صغيرهم وكبيرهم، لا يمتد إلى أفراد القبائل الأخرى، ودع جانباً أولئك الذين لا يسعهم الامتداد بنسبهم إلى أصول قبلية، كما أن ثمة تفاوتاً عميقاً يقسم المجتمع القبلي إلى شطرين متباعدين، هو التفاوت الجنسي، فالحياة العامة تستبعد وجود المرأة ومشاركتها وفعلها... وعلى رغم بروز بعض النساء من زوجات المشايخ والقادة، وعلى رغم أن المرأة عامل مهم في علاقات القرابة والثأر، إلا أن أهميتها هذه لا تجعل منها في حال من الأحوال طرفاً مكافئاً، إنها الرمز أو الأداة أو الجسد المادي في إطار عالم ذكوري. وبعد، لا يزال السؤال وارداً، وقد يكون مهماً عن مفهوم القبيلة في واقعنا اليوم، وإن اتفقنا أن وجودها كمؤسسة اجتماعية قد ذبل وخف، فهل هذا صحيح أيضاً بالنسبة الى تأثيرها كمفهوم وكسلوك وكانتماء؟ هل يشعر «الحضري» بأن شيئاً ما ينقصه، بل هل يعتقد القبلي أن الحضري ينقصه شيء ما؟ هل القبيلة في عالمنا اليوم فكرة رومانسية عن الصحراء ونجومها وأبطالها وبساطتها، أم هي امتداد يؤثر في قراراتنا الاجتماعية والإدارية، ويلون مناخنا الثقافي والفكري؟ ما هي العلاقة بين التنمية والقبيلة، سواء كمؤسسة أم كظاهرة حياتية؟ خطط التنمية لا تتحدث عن القبيلة، لكنها تقول إن من أهداف التنمية الاجتماعية تشجيع التنمية الاقتصادية من طريق التغلب على المعوقات الاجتماعية التي تعترض التنمية، والتي تبدأ من الأمية إلى سوء الحال الصحية، وتصل إلى الاتجاهات التي تدعو إلى تقييد حركة التجديد. فهل القبيلة من هذه الاتجاهات التي تقيد التجديد وتعوق التنمية؟ إن كانت كذلك - كما يعتقد الكثيرون - أفلا يستحق الانتماء القبلي والمفاهيم القبلية والامتداد القبلي مجهوداً واضحاً صريحاً ومنظماً لمقاومته وتفتيته وإضعافه، حتى يصبح الانتماء إلى الوطن والمساواة ومساواة التقوى لا النسب. والقضية هي التنمية لا القبيلة. * كاتب ووزير سعودي سابق