د. هلال العسكر لمواجهة تحديات العصر هناك تغيير مطلوب في التعليم يأتي في مقدمته مواجهة تحديات العولمة ، حيث يتحمل التعليم عبء تكييف نفسه مع تلك المتغيرات من حيث أهدافه وبناء محتواه ، كما يتحمل في الوقت نفسه عبء الوقوف ضد سلبيات العصر باعتباره أحد الخطوط الدفاعية المهمة عن هوية المجتمع وكيانه ، وبالتأكيد مواجهة الأزمة التي تمر بها أنظمة التعليم في البلاد لا يمكن أن تتم بجهود فردية ، بل لابد من بذل جهود ضخمة بحيث يسهم في هذه الجهود المجتمع كله ، ابتداء من صانعي القرار إلى المفكرين من النخبة والقادة التربويين إلى مختلف قطاعات المجتمع بما فيهم المعلمين والطلاب والجمعيات والفعاليات الاجتماعية والاقتصادية والإعلامية... إلخ . بحيث تتحالف جميع هذه الفئات لصياغة نظام تعليم قادر على الاضطلاع بالأدوار والمسؤوليات المترتبة على هذا النظام بحيث يستطيع هذا النظام صياغة أجيال الوطن وتشكيل مستقبلها وقيادة خططها التنموية الاجتماعية والاقتصادية . يتطلب تطوير التعليم العالي والعام إعادة النظر في المفهوم ستجابة أو مواكبة المفهوم المعاصر للاحتياجات الوطنية الفعلية والآمال المعقودة على الصعيدين الاجتماعي والفردي , فالتعليم العالي والعام يمران بأزمة ومصاعب جوهرية ، وإن كانت هذه الأزمة أبعد من مجرد صعوبات تقليدية ، إذ أن الأزمة الحقيقية عادةً لا تكون تحت منظور المداولات والمناقشات العادية المرتبطة بالأنشطة اليومية الروتينية ، إنما تكمن في الطريقة التي نفهم من خلالها التعليم والقواعد الأساسية التي يقوم عليها ، والطريقة التي من خلالها انكمشت أو ذبلت أهميته. فالتعليم العالي مثلا يفتقر إلى نظرية تربوية ، وتطوير معايير محلية للجودة ، والعمل على سد النقص في الكفاءات الوطنية والاستغناء عن الشركات الأجنبية باعتبار ذلك يمثل اعاقة لمسيرة المجتمع التنموية. وذلك بتوفير المناخ الملائم والظروف المواتية للبحث والدراسة والإبداع ومن ثم الاستقرار ، وتوظيف المعلوماتية والاستفادة من تقنية المعلومات الحديثة في تشخيص المشكلات واستشراف المستقبل ، ووضع الخطط ورسم السياسات ، والمتابعة والتقويم واتخاذ القرارات ، مع توفير التدريب اللازم لأعضاء هيئة التدريس لممارسة تلك الأساليب ، ووضع استراتيجية دقيقة وشاملة للتوسع في التعليم عن بعد يتم من خلالها ربط إلكتروني بين الجامعات ، من أجل دعم وتطوير الأبحاث المتعلقة بالتعليم عن بعد وإعداد مشاريع مشتركة لإنتاج وتبادل المواد التعليمية المطبوعة منها والمرئية والمسموعة والمحوسبة والحقائب التعليمية المعدة بأساليب التعليم الذاتي،.وإنشاء هيئة للتنسيق بين مؤسسات التعليم العالي فيما يختص برسم سياسات البحث العلمي وتبادل المعلومات في كافة الجوانب ، ونشر التجارب والصيغ المستحدثة في التعليم ، مثل التعلم عن بعد، والجامعة المفتوحة ، وأساليب التدريس باستخدام التقنيات التعليمية ، وضرورة إنشاء شبكة للمعلومات تيسر حصول الباحثين على المعلومات وتتيح تبادل الآراء والأفكار ، وتعزيز مشاركة الباحثين في المؤتمرات والندوات العلمية المحلية والعالمية و إثراء المكتبة بالمراجع والكتب الحديثة ورطها بمكتبات الدول المتقدمة, مع تشجيع الباحثين من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات والمراكز البحثية على التعاون لإجراء بحوث جماعية بدلاً من البحوث الفردية التي تعمل على تجزئة المشكلة , فالبحوث الجماعية تساعد على تناول المشكلات والقضايا التربوية بصورة كلية شاملة ومع التزايد المستمر في الطلب على التعليم العالي ، من الضروري تشجيع التعليم العالي الخاص كما يتم تشجيع التعليم العام الخاص ، على أن يكون خاضعاً لمعايير الجودة المعترف بها. وتشجيع الصيغ المختلفة للتعليم العالي ذات الكلفة الأقل ، والتي أثبتت كفاءتها وفاعليتها . كذلك يتطلب تطوير التعليم العالي أن تقوم مؤسساته بدورها في التنشئة المعرفية والتنشئة السلوكية والتنشئة المهارية , إذ أن ضعف التعليم العام ومركزية القرار فيه وضعف تكوين المعلم وتحوله إلى ملقن معرفي وغياب رقابة الجودة لإحداث التطوير المطلوب , وتدهور الأنشطة وتخلف الإدارة التعليمية أدت إلى نتيجة حتمية جعلت الطالب يقف على بوابة الجامعة تائهاً لا يمتلك أدنى المهارات اللازمة التي تعينه على تحديد مساره التعليمي, فضلاً عن أن يرسم أهدافه الحياتية المستقبلية. أيضا يتطلب تطوير التعليم العالي توثيق العلاقات بين مؤسساته وعالم العمل ، مما يقتضي إعادة النظر في التخصصات الدراسية المطروحة للتقليل من حجم ما لا يطلبه سوق العمل منها , وفي الوقت ذاته العمل على تأهيل طالب التعليم العالي ليكون قادراً على خلق فرص العمل ، عوضاً عن أن يكون مجرد باحث عن عمل ، هذا بالإضافة الى تطبيق نظام التعليم التعاوني، حيث يقوم الطالب بالدراسة النظرية في الجامعة والعملية التطبيقية في مؤسسات الإنتاج ، وغالبا ما يمكث الطالب حوالي عام ونصف في مجال العمل، حيث يتم التسجيل في الجامعة وبعد فصل دراسي أو فصلين يتم إلحاقه بمؤسسة الإنتاج لمدة فصل دراسي ثم يعود للجامعة وهكذا.. إلى أن يتخرج الطالب، وبذلك يتحقق ربط النظرية بالتطبيق , ويتطلب تطبيق نظام التعليم التعاوني إنشاء مكتب خاص في الجامعات لهذا الغرض,كما يساعد تطبيق نظام التعليم التعاوني على زيادة الطاقة الاستيعابية للجامعة بوجود معظم الطلاب في مؤسسات الإنتاج.، وإنشاء وحدات للتقويم الذاتي في مؤسسات التعليم العالي تعمل بصفة مستمرة على تصحيح مسار المؤسسة طبقاً للأهداف الموضوعة ، وبناء على المعايير المتفق عليها في تقويم الأداء . هذا بالإضافة الى ضرورة انفتاح مؤسسات التعليم العالي على المجتمع لتشجيع المشاركة الجماعية والمجتمعية في اتخاذ القرارات التي تتصل بتخطيط البرامج الدراسية وتقييم الأداء ، وتقديم العون النقدي والمعنوي وتمويل البرامج والمشروعات البحثية. وانطلاقاً من مسؤولية الدولة في بناء رأس المال الإنساني بكافة أشكاله ، فإنه من الواجب أن تستمر في توفير فرص التعليم العالي للمواطنين المؤهلين للالتحاق به ، ولا تعني هذه المسؤولية أن تكون مؤسسات التعليم العالي حكومية ، لأن أهم مقوم للإصلاح الجذري لمؤسسات التعليم العالي هو تحرير مؤسسات التعليم العالي من سلطان الحكومة. وأن يقوم عليها مجالس إدارة مستقلة رباعية التمثيل (الدولة، قطاع الأعمال ، المجتمع المدني ، والأكاديميون).مع استبعاد حافز الربح من ميدان التعليم العالي وتشجيع قيام مؤسسات التعليم العالي غير الهادفة للربح ، من منظور أن المردود من الاستثمار في رأس المال البشري على المجتمع وخططه التنموية يفوق عشرات المرات الاستثمار في رأس المال المادي ، وأن يتم فرض رسم على أرباح شركات سوق المال لدعم برامج ومراكز البحوث والجمعيات العلمية في التعليم العالي ، هذا فضلاً عن تشجيع الأفراد الموسرين ومشروعات الأعمال والمهن على منح الهبات والوقفيات لمؤسسات التعليم العالي من خلال تسهيلات وإعفاءات مغرية من الرسوم. والأولى من هذا وذاك إعادة النظر في هياكل وبرامج مؤسسات التعليم العالي القائمة لتفادي التكرار النمطي في نسق التعليم العالي ككل ، واعتماد المرونة في هذه الهياكل والبرامج ، لمواكبة احتياجات خطط التنمية الوطنية من العمالة الماهرة والمدربة ، مع ضرورة دمج التعليم العالي والتعليم العام في منظومة تكاملية واحدة لتعزيز دورها الإيجابي في تطوير التعليم العام والجامعي بشكل شمولي لا يسمح بوجود فجوة بينهما. ختاما ندعو جامعاتنا إلى أن تتبنى الثقافة الإدارية لقطاع الأعمال كأسلوبٍ لتطوير إدارتها والبعد عن ثقافةِ موظفي الخدمة المدنية ، حيث أن ثقافة منظمات الأعمال في القطاعِ الخاص تركزُ على الجودةِ ومستوى الخدمة وخفض تكلفة ألإنتاج ، وهذا ما تتمناه كلُّ إدارةٍ جامعية. هذه بعض الأفكار التطويرية للتعليم العالي –من وجهة نظر شخصية - ليصبح لدينا تعليما يناسب متطلبات المرحلة والظروف التي نعيشها اليوم ، ودون تطوير شامل لمنظومة التعليم العالي والعام سنظل في مكاننا نراوح ، لأن التعليم هو الأساس الذي يبنى عليه أي تطوير.