يسعدني في هذا المقال أن أذكركم بالإمام الذي الثقة الذي لم يكن في زمانه مثله حسب قول الذين عاصروه في وقتهم. هو سلمة بن دينار، الإمام القدوة، الواعظ، وشيخ المدينة النبويّة، أبو حازم المديني، المخزومي ولد في أيام ابن الزبير وابن عمر وفاته بي سنة 133 ه وسنة 144 ه. كان عالم المدينة وقاضيها وشيخها, وكانت حلقة أبي حازم في المسجد النبوي مهوى القلوب والأفئدة, ومحط أنظار العلماء والصلحاء. وكان أيضًا موهوبا, حاد الذكاء, شديد الفطنة, لماحا, يتمتع بواعية قل نظيرها. فأقبل على العلم إقبال النهم الظامئ حتى شبع وروى, وغدا في الطليعة, فكان عالم المدينة في عصره, فإذا قال أو أفتى كان في ذلك الفصل, فلا يعتد بغيره, ولا يؤخذ إلا برأيه. ومن أقواله يرحمه الله ما الدنيا؟ ما مضى منها، فحلم، وما بقي منها، فأماني). وقال يحيى بن أبي كثير: دخل سليمان بن عبد الملك المدينة حاجًّا فقال: هل بها رجل أدرك عدّة من الصحابة؟ قالوا: نعم، أبو حازم، فأرسل إليه، فلما أتاه قال: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال: وأي جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين؟ قال: وجوه الناس أتوني ولم تأتني قال: والله ما عرفتني قبل هذا، ولا أنا رأيتك فأي جفاء رأيت مني؟ فالتفت سليمان إلى الزهري فقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا فقال: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت؟ فقال: عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة؛ فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب، قال: صدقت فقال: يا أبا حازم ليت شعري ما لنا عند الله تعالى غدًا؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله عز وجل قال: وأين أجده من كتاب الله تعالى؟ قال: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار]. قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: قريب من المحسنين قال سليمان: ليت شعري كيف العرض على الله غدًا؟ قال أبو حازم: أما المحسن كالغائب يقدَم على أهله، وأما المسيء كالآبق يُقدَم به على مولاه، فبكى سليمان حتى علا نحيبه واشتدّ بكاؤه. يحكي أيضًا أن الخليفة سليمان بن عبد الملك أحضر عالم المدينة وإمامها أبو حازم سلمة بن دينار لترطيب قلبه وسماع نصيحته. أعجب الخليفة بحكمة وورع أبي *حازم فقال الخليفة: هل لك أن تصحبنا يا أبا حازم فتصيب منا و نصيب منك ؟ فقال: كلا يا أمير المؤمنين فقال الخليفة: و لِم ؟ قال: أخشى أن أركن إليكم قليلا فيذيقني الله ضعف الحياة و ضعف الممات فقال الخليفة: ارفع لنا حاجتك يا أبا حازم، فسكت و لم يجب. فأعاد عليه قوله: ارفع إلينا حاجتك يا أبا حازم نقضها لك مهما كانت فقال: حاجتي أن تنقذني من النار، و أن تدخلني الجنة فقال الخليفة: ذلك ليس من شأني يا أبا حازم فقال أبو حازم: هل من حاجة سواها يا أمير المؤمنين فقال الخليفة: ادعُ لي يا أبا حازم فقال: اللهم إن كان عبدك سليمان من أوليائك فيسّره إلى خيري الدنيا و الآخرة، و إن كان من أعدائك فأصلحه واهده إلى ما تحب و ترضى. فقال رجل من الحاضرين: بئس ما قلت منذ دخلت على أمير المؤمنين، فلقد جعلت خليفة المسلمين من أعداء الله، آذيته فقال أبو حازم: بل بئس ما قلت أنت فلقد أخذ الله على العلماء الميثاق بأن يقولوا كلمة الحق، فقال تعالى: ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾. ثم التفت إلى الخليفة و قال: يا أمير المؤمنين إن الذين مضوا قبلنا من الأمم الخالية ظلوا في خير و عافية، ما دام أمراؤهم يأتون علماءهم رغبة فيما عندهم، ثم وجد قوما من أراذل الناس تعلموا العلم و أتوا به الأمراء يريدون أن ينالوا به شيئا من عرض الدنيا، فاستغنت الأمراء عن العلماء، فتعسوا ونكسوا، و سقطوا من عين الله عز وجل. فقال الخليفة: صدقت: زدني من موعظتك يا أبا حازم، فما رأيت أحدا الحكمة أقرب إلى فمه منك. فقال: إن كنت من أهل الاستجابة فقد قلت لك ما فيه الكفاية، و إن لم تكن من أهلها فلا ينبغي لي أن أرمي بقوس ليس لها وتر. فقال الخليفة: عزمت عليك أن توصيني يا أبا حازم. فقال: نعم سوف أوصيك و أوجز، عظِّم ربك عز وجل ونزِّهه على أن يراك حيث نهاك و أن يفقدك حيث أمرك، ثم سلم وانصرف. فقال له الخليفة: جزاك الله خيرا من عالم ناصح آمين. أخي القارئ العلماء مصابيح الدجى لأنهم أعزوا علمهم فأعزهم الله عز *وجل *وقالوا كلمة الحق وأدوا أمانة الله في نصح السلطان وتوجيه العامة . سئل الإمام الحسن البصري رحمه الله تعالى: بمَ نلت هذا المقام ؟ فقال: باستغنائي عن دنيا الناس و حاجتهم إلى علمي . وقال أبو حازم يرحمه الله : لا تكُون عالِماً حَتَّى يَكُونَ فيكَ ثَلاَثُ خِصَالٍ: لاَ تَبغِ عَلَى مَن فَوقَكَ، وَلاَ تَحقِر مَن دُونكَ، ولا تَأخُذ على عِلْمِكَ دُنيَا. صدق علي بن أبي طالب رضي الله عنه عندما قال : (الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك).