قال وزير الخارجية الامريكي الاسبق هنري كيسنجر : "على اعداء امريكا ان يحذروها مرة وعلى اصدقائها ان يحذروها الف مرة ". ولتفسير كلام الوزير فهو يريد أن يقول أن مصالح الامريكان فوق كل اعتبار ومبادئ وقيم . لقد حافظت المملكة العربية السعودية منذ الستينات على تحالف استراتيجي مع الولاياتالمتحدة , ورغم تعرض هذا التحالف للعديد من المتغيرات والازمات إلا ان التوازن الدبلوماسي قد حافظ على هذا التحالف رغم هشاشته في بعض المراحل . لقد ظلت العلاقة السعودية الامريكية مستقرة رغم تغير الرؤساء والملوك ؛ وذلك لاعتماد كل دولة على الأخرى في تحقيق مصالح مشتركة . ورغم وجود العديد من الاجندات المختلفة للبلدين التي اضطرتهما للوقوف في مواجهات دبلوماسية وغير دبلوماسية إلا أن التعاون ظل قائما بدأ من وقوف السعودية مع مصر في ازمة السويس في عهد الرئيس عبد الناصر مما جعل الرئيس الامريكي ايزنهاور يعارض بشدة العدوان الثلاثي على مصر ويمارس ضغوطا على دول العدوان رغم تضرر المصالح الامريكية من تلك الازمة , . وقد استجابت بريطانيا وفرنسا لتلك الضغوط ووافقتا على الانسحاب غير المشروط من مصر. وهذا الموقف السعودي مع مصر كان رغم التوتر في العلاقات مع الرئيس عبد الناصر في ذلك الوقت فالمواقف السعودية كانت ولازالت تستهدف مصالح الشعوب الاسلامية . وبالرغم الدعم الامريكي اللامحدود لإسرائيل , إلا أن التاريخ يذكر ان الرئيس الامريكي روزفلت أضاف في خطابه امام الكونجرس عام 1945:" تعلمت عن المشكلة العربية الاسرائيلية عبر التحدث مع الملك عبد العزيز رحمه الله لخمس دقائق اكثر مما يمكن ان اتعلمه عبر تبادل عشرات الرسائل "، وكان ذلك بعد مقابلة خاطفة بين الملك عبد العزيز رحمة الله والرئيس الامريكي روزفلت على ظهر البارجة كوينسي في مياه السويس ؛ومع الانقلاب العسكري باليمن عام 1962 وقيام القوات المصرية بمهاجمة مناطق سعودية حدودية , بدأ الملك سعود ثم أكمل الملك فيصل العمل على ايجاد وسائل بديلة للدفاع عن السعودية بدلا من المعاهدات والاتفاقات مع الحليف الامريكي كذلك عدم رغبة المملكة في وجود قوات اجنبية بحجة حماية المصالح المشتركة . وكانت هذه نقطة البداية في ترسنة الجيش السعودي بعدد من الطائرات والانظمة الحربية المتقدمة لاحقا، ورغم عدم التزام الامريكيين بوعودهم بمساعدة الحليف السعودي ضد العدوان المصري كذلك عدم ممارسة الضغوط لانسحاب الجيش المصري من اليمن , مما دفع السعودية الى دعم القبائل اليمنية المقاومة للاحتلال المصري وكذلك الثوار المنشقين عن الهيمنة المصرية مما ترتب عليه الحاق خسائر كبيرة بالقوات المصرية ، كذلك باشر الفيصل بإرسال قوات واسلحة للدفاع عن الحدود فقد استشعر أن الامريكيين غير جادين في لعب دور الحليف . وأمام هذه الاستراتيجية السعودية نجح الفيصل في اخراج المصريين من اليمن وحماية الحدود السعودية وكذلك في ترويض النظام الجمهوري الجديد باليمن الذي كان متأثرا بالشعارات الناصرية الفضفاضة عن القومية و لقد تم ذلك دون مساعدة الامريكان الذين كان موقفهم مخجلا ومحل استغراب . في عام 1966 كان هناك تناميًا للمد الشيوعي السوفيتي بالشرق الاوسط , مما حرك الفيصل رحمه الله للتنسيق وبذل الجهود لمواجهة هذا المد , ورغم أن الامريكيين كانوا يرون ان هناك مبالغة في تقدير مخاطر المد الشيوعي !! . مما استدعى الملك فيصل رحمه الله أن يقول كلمته الشهيرة للرئيس جونسون ( أننا نحارب على ارض دينية ما تحاربونه انتم لأسباب عقائدية ) ؛ وعليه فقد اعتمد الامريكيون بشكل كامل على عقلية ومعلومات الفيصل في تحديد مخاطر المد الشيوعي رغم اختلافهم معه في طرق ايقاف هذا المد . وأمام هذا الخطر الداهم على الامة الاسلامية بدأ الفيصل في الدعوة الى تضامن اسلامي لاسيما وهو يرى أن بلاد العرب لم تكن لتكون أمة من دون اسلام وما كان للغة العربية أن تحفظ من دون القرآن , ولعل هذا يفسر مقاومته رحمه الله لشعارات القومية التي ارهقت الدول الاسلامية وشوهتها وساعدت في تفكيكها وضعفها , كذلك ربما يفسر دعم الامريكان لتلك القوميات التي كانت تهدف إلى اجتثاث مبادئ وقيم الاسلام والمسلمين . وفي عام 1967 مع الاحتلال الاسرائيلي لأراضٍ من ثلاث دول عربية والضفة الغربية بما فيها القدس ، قدم الفيصل القضية الفلسطينية الى العالم اجمع وخطب خطبته الشهيرة في حج 1388ه - 1968 قائلا : "نريدها غضبة اسلامية لا تدخلها قومية او عنصرية او حزبية , إنما دعوة اسلامية الى الجهاد في سبيل الله دفاعا عن مقدساتنا وحرماتنا وارجوا الله أنه إذا كتب لي الموت أن يكتب لي الموت شهيدا في سبيل الله " . كذلك فإن محاولة احراق المسجد الأقصى في 21 أغسطس عام 1969 أثار حنقا اسلاميا لامثيل له وساعد في تقارب الرؤية مع الفيصل ودعواته لتضامن وحلف اسلامي فكانت القمة الاسلامية بالرباط وفي نفس العام وأنشأت منظمة المؤتمر الاسلامي . لقد كان لهذا التضامن الاسلامي الفضل الاكبر في كبح المد الراديكالي للقوميات واجهاض الدعم الامريكي في تقويض التضامن الاسلامي وطمس الهوية الاسلامية . لقد كان الفيصل زعيما روحيا للحركة الاسلامية الشاملة التي اجتثت المد الشيوعي وحجمت النفوذ الغربي , لقد كان الفيصل حارسا للإسلام وللأماكن المقدسة ولا جدال في ذلك . ولكن هل أنتهى هذا الدور بموت الفيصل ؟ سنرى في المقال القادم استمرار السعودية في اجهاض المخططات والوقوف في وجه التحديات , ومع كل أزمة تستهدفها فإنها تخرج منها اكثر ثباتا واعظم قوة .