يصف الشاعر عبد الهادي حرب قلب الشاعر بأنه( شف وجدا وسما عاطفة) فكيف بشاعر نبت في أرض جازان الخصيب هذه الأرض التي نهلت من ينبوع الإبداع فهي أم الأدب وحاضنته كما وصفها حسن بن علي القاضي حين قال : (لولا صفاء بجازان الخصيب نما روح الأديب لماتت صنعة الأدب) ومن هذا المبدأ قررت في يوم الوطن أن أغشى مجالس شعراء جازان. فطفقت ابحث عنهم وأُسائل وأخيراً دلوني على ثلاثة منهم كانوا قد خلصوا نجيا, مستأنسين بظل عروج صبيا والوادي ينساب رقراقاً بين أيديهم كالحمل الوديع, والنسائم البحرية تداعب الزهر حولهم وتخاتله , وأغصان الشجر تساقط الدر المنسكب من شمس الأصيل على أنغام اليمام الوله فوق المستظلين. سلمت عليهم وجلست ,كان أحدهم شيخاً كبيراً ينبعث الوقار من جبينه الأسمر لكن لا يبدوا أن وقار السنين قد سرق من عنفوان شبابه شيئاً فسألته عن سر هذا العنفوان والصحة رغم عبث السنين فأجاب (في دمائنا من هوى هذه البلاد.. قوة تطرد الجراثيم طردا) عندها عرفت الشيخ إنه عندليب جازان وشاعرها الفحل محمد علي السنوسي فرحت أقبل شيبته و أُسائله قائلاً ماذا يعني لك الوطن؟ فأجابني وهو يبعث زفراتٌ ولهة قائلاً: (هو) في خاطري وملء عيوني وعلى كل رفةٍ من جفوني (هو) شمسي إذا نظرت إلى الشمس وبدري إذا اكفهرت دجوني (هو) في كل خفقة من فؤادي (هو) في كل نغمة من لحوني ثم قلت له وهل ستسلو هذا الوطن يوماً ؟ فأجابني غاضباً : كيف أسلوه والهوى يدفع القلبَ على كل موجة من شجوني كيف أسلوه والرؤى والأماني عن شمالي طيوفها ويميني شاخصات إليه تهتف بالقلب وتجري به كجري السفينِ عندها أحببت أن ألاطف الشيخ ليذهب عنه ما به, فقلت له وأين ترى هذا الوطن اليوم وأنت على عتبات هذه السنين؟ فأجاب: متحفٌ من أشعةٍ وظلالِ في إطارٍ من نضرةٍ واخضلالِ سابحٌ في الفضاء يغمرهُ النور بفيضٍ من السنا والجلالِ يتحدى الذرى ويخترق السحبَ ويزهو في عزة واختيالِ شاقني ذلك السموّ ولي قلبٌ وَلوعٌ بكل سامٍ وعالِ كَلِفٌ بالسموّ أني تجلى شامخاً في الجبالِ أو في الرجالِ وهل أيه الشيخ الكريم هذا دأبك ودأب أبناء جيلك في عشقكم لهذه الأرض ؟هكذا تابعت الأسئلة , فتبسم وهو يهز رأسه بالموافقة ثم قال: ذاك دأبي ودأب قومي مدى الدهر صراع الردى وقهر المجالِ وبينما أحاول معاودة سؤال هذا الشيخ المترع بالحكمة ,إذا بصرخة تعبث بسكون المكان التفت وإذا بأحد الجالسين ينكب على ذرات الثرى شماً وتقبيلاً حاولت الإمساك به لكنه نهرني وقال مخاطباً تراب الوطن : دعني أقبل ظلاً فيك أنبتني وفي ترابك بالخدين ألتصق فعرفت الرجل إنه شاعر البحر والدان الأستاذ إبراهيم مفتاح فتركته يسكب قبلاته على أديم هذا الوطن وينساب شعراً وغناءً وهو يقول : واضمم جناحي في دفء الحنان ضحى وحين يهطل فيك الطل والغسق فأنت في مهجتي نبض وفي قلمي حرف وفي كل عام يزهر الورق هزني هذا المشهد بقوة ورحت في نوبة بكاء طفولي وأنا اتسائل أي عشق حمله هولاء الرجال لهذه الأرض؟ بحيث أصبح تقبيل ثراها هي غايتهم؟! وأين أنا وأبناء جيلي من هذا الحب ؟ ثم أخذتني موجة بكاء مر. ولم أدري بنفسي إلا وأنا أخاطب ثالثهم وأنت ما حسبك وصمت القبور هذا ألا يحرك فيك ما سمعت وشاهدت شيئاً؟ بالله قل لي ماذا يعني لك الوطن؟ فأجابني : أأنا!! تعني؟! قلت :أجل. هنا أنطلق يقول أترى هذا الوطن ؟ قلت نعم , فقال أنه : وشم على ساعدي نقش .. على بدني وفي الفؤاد وفي العينين يا وطني شمساً حملتك فوق الرأس فانسكبت مساحة ثرة الأضواء تغمرني قبلت فيك الثرى حباً .. وفوق فمي من اسمرار الثرى دفء تملكني فعرفته من شعره العذب إنه الأستاذ/ علي محمد صيقل ,فرحت أسائله من أين لك هذا القصيد الجميل؟ لكنه استمر يخاطب الوطن قائلاً: قصيدتي أنت منذ البدء لّحنها أجدادي الشُّمُ فانثالت إلى أذني ترنيمة عذبة الألحان .. فامتزجت ألحانها في دمي بالدفء تفعمني غنيتها للرمال السمر في .. شغف وللصواري وللأمواج والسفن لنخلة .. حينما أسمعتها اندهشت تمايلت وانثنت نحوي توشوشني ضممتها إنها رمز العطاء وفي جذورها عروة وثقى توصلني ثم قلت له وما بلغ بك حبك لهذا الوطن ؟ فالتفت إلى المغيب ثم قال: يا موطني أنني أهواك في وله يا نكهة حلوة تنساب في بدني أقسمت بالله لن أنساك يا حلمي فإن سلوتك هيئ لي إذن كفني . هنا قررت الانسحاب من الجلسة خجلاً من نفسي وخوفاً أن أسائل عن ماذا قدمت للوطن ؟ لكنني غادر تهم وأنا أعاهد هذا الوطن أن أكون له في كل وادي زهرة وفي كل غصن ثمرة وفي كل شاطئ موجة تغسل قدميه الحبيبة. كنت في قمة الخجل من ذلك الجيل الذي بنى الوطن وتحمل لأجله ومعه كل الصعاب لنقطف نحن الثمر فهل سنحافظ عليه (ونصنع مثل ما صنعوا) ؟ ثكلتنا أمهاتنا إن ضيعنا الأمانة ولم (نصنع فوق ما صنعوا).وطني دم سالماً ,مليكي أنت في العيون, رايتي دونك خرط القتاد [email protected] 5