العروسة المغتصبة فيضانات باكستان لها هزات ارتدادية في ضمير كل انسان لاتزال لديه بقية من وجدان ، وذلك أن الإنسانية امانة أودعت في جنبات النفس البشرية والتي لا يتنكر لها إلا من خرج بعيداً عن حدود الحظيرة الإنسانية . ولأنني أنتمي إلى مجموعة بشرية عرف عنها الإحساس المرهف ورقة المشاعر فقد آلمني هذا المصاب الجلل . وبعد أن استقرت كتلتي الجسمية الضخمة فوق ذلك الكرسي الخشبي الهزيل في إحدى الحدائق رأيتها تمشي الهوينا واقتربت شيئاً فشيئاً حتى جلست بقربي وعلى استحياء بعد أن استأذنت الجلوس . كانت عيناها حوراوين تقتل ثم تحيي قتلاها ، وألحاظها كانت كأسياف تنادي على عاصي الهوى الله أكبر ، أما شفتاه فكانت خوخ وياقوت مكسر ووجهها كان مبعث نور والرقبة مرمر . وبعد أن اطمانت نقاء سريرتي وحسن نيتي بادرتني بالسؤال عن سبب كل هذا الحزن وهذه الكآبة وعندما أخبرتها الخبر زفرت زفرة أخرجت مابداخلها من مرارة كانت حبيسة صدرها سنوات طوال . وقالت : ليست الإنسانية هي الأمانة الوحيدة لدى الإنسان فهناك أمانة أكثر خاصية وملازمة للإنسان ولا تنفصل عنه إلا بعد مفارقة روحه لجسده ألا وهي المواطنة . إنها الإنتماء لجماعة بشرية او إنسانية معينة سمها ماشئت وإنتمائه معهم جميعاً إلى تراب وطن معين ، والإحساس بهذا الإنتماء ليحملوا هوية هذا الوطن ويعتزون ويفاخرون بها في وجه العالم كله . يفرحون بأمجاد وطنهم ويحزنون لحزنه ، يعطوه من عرفهم ودمائهم إذا ما أحتاج ويطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف ثم أردفت قائلة : تعال نقارن بين مأساة باكستان التي كدرت صفوك وبين مأساتي . وضعت ساقاً على أخرى وأشعلت سيجارتي الثانية على غير عادتي في الإفراط في التدخين وصرت كلي آذان صاغية . قالت : في البداية أنا لا أقلل من هول المصاب في باكستان ولا أملك لهم من أمري إلا الدعاء للموتى بالرحمة وللمصابين والفارين والهاربين الى اليابسة بتجاوز محنتهم وذلك أنني من خبر النكبات والمحن والمصائب ثم أخذت تقارن بين مأساتها ومأساة باكستان قائلة لقد حدث الفيضان في أيام معدودة يتيمة ولن تخرج الأرض إثقالها فيصل الدواء لمعالجة الداء والمساعدات الإنسانية والتبرعات وما يخص الأمر ولكن بلائي فعمره ثمانين سنة وازدادت خمساً وما يزال الجرح دامياً لم يندمل . ما حدث في باكستان انه بفعل الخالق الذي أمر الطبيعة أن تفعل فعلتها بكن فكانت ، وللخالق فيما يصنع حكمة وعبرة . أما ما يحدث على أرضي فإنه بفعل الذين إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة . في الدولة المنكوبة باكستان القتلى يتراوح الألفين حسب الراوي أو ينقصون قليلاً وعلى أرضي قتل الملايين بفعل الاستبداد والقهر والتعذيب. في باكستان تشرد عشرات الآلاف بإرادتهم المستقلة بحثاً عن الأمان من غدر الطبيعة وعلى أرضي شرد مئات الآلاف من قبل أعداء الإنسانية قسراً حقداً وطمعاً في خيراتي ونهباً لثرواتي ، في باكستان كانت المأساة قضاءاً وقدراً وعلى ارضي كانت المأساة جريمة ارتكبت عمداً عن سابق اصرار وتصميم . عاودت أخذ نفس عميق ظننت أن لن يخرج من صدرها ثانية ثم زفرت زفرة شممت فيها رائحة حشرجة ونحيباً وسألتني أترغب بالمزيد وقبل أن أبدي موافقتي سارعتني بالقول لقد كمَّت أفواه اولادي وشوه تاريخهم أمام ناظريهم وسرقت أرضهم ونهبت ثرواتهم وقيد علمهم وحجم عملهم وأصبحوا ينامون ويصحون على كلمة " صبح بخير أي صباح الخير و . . . " حتى أسماؤهم العربية جردت من اللها هذا كله عدا التعذيب والتنكيل والاعدام لأتفه الأسباب أو حتى بدون أسباب إذ ألزم الأمر حتى صدق فينا قول الشاعر : ألجم لسانك ألجم *** الموت للمتكلم لا يسألونك إن أخفت *** أثمت أم لم تأثم فالحبل شر مرحب *** والعنق خير مسلم نزل الدمع من عينيها الناعستين كأنه قطع من برد لكن حرارته بحرارة الجمر وقالت لدي المزيد المزيد إلا أنني لا أريد أن أثقل على مسامعك . وكل ما أريده منك ألا تنساني في خضم هذا البحر المتلاطم من الأحداث والمصائب التي نعاني منها جميعاً وإن كنت غير قادر على نصرتي فرجائي الوحيد أن تروي قصتي لأولادك فربما يأتي ذلك اليوم الذي يلبي فيه أحد أبناء عروبتي استغاثاتي الكثيرة بالمعتصم . وقبل أن تلف عباءتها على كتفيها مؤذنة بالانتقال إلى محزون آخر لتقص عليه قصتها سألتها من تكوني فقالت : أنا الأحواز المنسية . فاضل الاحوازي[email protected] شاعر وكاتب صحفي