نمو الدماغ: السنوات الأولى المصيرية.. في مقال سابق بعنوان "بلايين الخلايا العصبية هي المسؤولة عن ذكاؤنا أو غباؤنا" تحدثت عن أهمية التنشئة الأسرية السليمة في تطوير قدرات الذكاء لدى الأطفال, وقد وضحنا بشكل مختصر كيف تترابط ملايين الخلايا العصبية في الدماغ مع كل موقف يتعرض له الطفل في مراحل نموه المبكر. لتوضيح ذلك, يقول جون حينما تعطي طفلك (2-6سنوات) مكعبات ألعاب ثم تطلب منه تركيبها, سيقوم طفلك بتركيبها وبينما هو منهمك في ذلك النشاط الذهني فأن خلايا دماغه العصبية تبدأ في الترابط والبناء مع كل حركة أو مهارة تركيب وما يصحبها من تفكير, وهكذا كلما تعرض الطفل إلى مواقف تتطلب مهارات خاصة أو حتى عادية فأن خلايا دماغه تبني ذاتها وتتواصل بناء على تلك المهارات والتجارب .. إذن كلما تعرض الطفل لمواقف تحفز على الذكاء أو تتطلب مهارات تفكير عالية كالانخراط في اللعب واللهو في فناء المنزل أو من خلال التدرب على الرسم, فإن العشرات من خلايا دماغه العصبية تبنى وتترابط بموجب تلك المهارات لتشكل نماذج تعمم مستقبلا على معظم المواقف التي تواجهه, وهذا ينطبق على المواقف والمهارات التي لا تحفز على الذكاء. في هذا المقال سنتحدث عن أهمية البيئة أو المحيط الأسري في تزويد الطفل بالتجارب والأنشطة المختلفة وأثرها في نمو بنيته الدماغية بشكل ايجابي وكذلك سنوضح كيف أن حرمانه من ممارسة الأنشطة المختلفة سيؤدي إلى ضمور أو موت بعض خلايا الدماغ العصبية التي قد تساهم في تدني مستوى كفاءته العقلية ما تجعل الحياة أمامه والى الأبد أكثر تحديا .. يعتقد شنج يوكس (1985) انه في أحيان كثيرة يؤثر موت الخلية فقط في بعض الخلايا العصبية, ويشير إلى أن موت هذه الخلايا لوحظت أول مرة في أدمغة الأطفال بعد ملاحظتها في الثديات المختلفة, والحقيقة أن العلماء يؤكدون أن من بين أسباب موت الخلايا العصبية هو ما يفسر بظاهرة الانتخاب الطبيعي, هذه الآلية تعمل وفق ما هو مسموح به ومشاهد في البيئة, أي أن العضو الذي يؤدي وظيفته بشكل سليم يبقى وقد يتطور وينمو للأفضل بينما العضو الذي لم يعد صالحا يتلاشى أو يضمر ويختفي. وقد أكد هذه الميكانيكية, الملاحظة العلمية التي قام بها الفائزان بجائزة نوبل ديفيد هوبل و تورستن ويزل في عام 1981 والتي تعد اختراقا عظيما في كيفية عمل الخلايا العصبية وما هي الآلية التي تمكن تلك الخلايا من الترابط أو الانتحار. وكانا قد قاما بتجربتهما المثيرة على قطة ولدت حديثا, حيث أغلقا احد عينيها لمدة أسبوع فقط, وقد اكتشفا بعد فترة أن منعها من الإبصار قد تسبب في تغيير ترابط الخلايا العصبية للطبقة 4 من لحاء مؤخرة الرأس ما أدى إلى أن قلة ترابط المحور العصبي الناقل للإشارات العصبية من العين المغلقة, بينما ارتفع معدل الترابط في الخلايا العصبية الدماغية الناقلة أو المخصصة للعين المفتحة. وقد أدى ذلك إلى أن العين المغلقة فقدت الإبصار ولم يستطيعا إعادة البصر لتلك العين نهائيا رغم المحاولات الطبية, وهذه التجربة تؤكد أن الفترة بعد الرضاعة مهمة في تشغيل الخلايا العصبية الخاصة بالبصر وفي ترابطها والأهم في منح الدماغ الفرصة للإطلاع على العديد من الخيارات الموجودة في البيئة كي يتعامل معها الدماغ بشكل اشمل. والحقيقة أن هناك مقالة للباحث مارك وورد نشرت في مجلة ميلوا كي سنتي نال في ابريل, 8, بعنوان "مسائل علمية"1997حيث أشار إلى بحث فرانسيس روس تشر وزملائه مقتبسا عنه "أن الأطفال الذين لم تعمل أدمغتهم وفق هذا الترابط في حياتهم المبكرة نتيجة عدم خوضهم لتجارب عملية أو لان البيئة التي نشأوا فيها لم تمكنهم من خوض تجارب متعددة ومتباينة حول مختلف الأنشطة البشرية ما جعل خلايا أدمغتهم العصبية تتحجم وفق آلية معينة أو محددة بالتجارب التي مروا بها" . وينسب إلى الباحث القول: "انه بعد عدة سنوات ستتوقف خلايا أدمغتهم عن إنتاج الكثير من الخلايا العصبية التي كانت أو وجدت لكي تجعل الدماغ أكثر ذكاء وتكيفا مع املاءات البيئة. فحينما تم تحييد ترابط هذه الخلايا فقد لوحظ أنها بدأت في تقليم الخلايا العصبية التي لم تعد تستخدم"..وهذه الآلية الدماغية حسب الباحثين تتبع نظرية الانتخاب الطبيعي, أي أن بعض خلايا الدماغ تضمر وتتلاشى نتيجة عدم الاستخدام. فيكتور هامبرجر اكتشف أن بعض مناطق الوتر للحبل ألشوكي لجنين الفرخة تحتوي على أكثر من 20,000 خلية عصبية بينما تصبح 12,000 فقط لدى الفرخة في متوسط عمرها. أي ان 40% من هذه الخلايا تموت معظمها في الأيام أو الأشهر الأولى من الولادة, وتستمر في التلاشي أو الموت بعد ذلك بسرعة بطيئة.. إشكالية حرمان الطفل من السماع للموسيقى إذن وعطفا على ذلك نقول أن حرمان الطفل في بداية حياته من الاستمتاع بنغمات الموسيقى الهادئة والهادفة يعني حرمانه وربما إلى آخر العمر من الاستمتاع بالموسيقى بشكل عام, نظرا لأن روابط الخلايا العصبية الخاصة بالموسيقى قد تم حذفها من تكوينه الدماغي أو ربما تحييد عددها بشكل كبير بحيث أصبح دماغه لا يعمل بشكل يمكنه من الاستمتاع بالموسيقى .. والحقيقة أن الموسيقى تمنح الإنسان الهدوء النفسي وتخلق في وجدانه المشاعر الرقيقة المحفزة على الحب والعطاء والإحساس بمشاعر آلام الآخرين, وفي المجال التعليمي وجد أن الموسيقى تحفز على التعلم. تشير دراسة روشر وزملاؤها في جامعة كاليفورنيا في ايرفين - مركز علم الأعصاب في التعلم والذاكرة في التقرير الذي نشر في دورية نيتشر العلمية البريطانية على ما يسمونه "تأثير موزارت" حيث وجد أن الموسيقى تحفز على التعلم. ولتحديد ما إذا كان سماع الموسيقى يؤدي إلى تحسين التعلم المكاني لدى الأطفال من سن الثالثة, فقد قام باحثون من جامعة كاليفورنيا بدراسة مجموعة من الأطفال أعمارهم 3 سنوات تم التحاقهم ببرنامج في مدرسة تمهيدية بلوس أنجلوس. ووجد انه من بين ال 33 طفل, 22 تم تدريبهم على موسيقى خاصة وممارسة الغناء الجماعي, و عند اختبار هؤلاء الأطفال على المهام التي تحتاج إلى مهارات التفكير المنطقي المكاني وكذلك تجميع صور مبعثرة ومحيرة, حقق الأطفال الذين اخضعوا للدراسة نتائج مبهرة, بينما الأطفال الذين لم يدربوا على الموسيقى لم تكن نتائجهم مرضية, الجدير بالذكر أن الدراسة امتدت إلى ثمانية اشهر.. الخلاصة نستطيع أن نستنتج من الدراسات والأبحاث الخاصة بتطور دماغ الطفل في المراحل العمرية المبكرة أهمية أن نهيئ لأطفالنا بيئة مثالية تلبي كل متطلبات نمو أدمغتهم بشكل مرضي, وان نتيقن أن حرمانهم من ممارسة نشاطا معينا سيكون كفيلا بحرمانهم من الاستمتاع به والى الأبد, ذلك أن نمو أدمغتهم بشكل مرضي يتوقف على وفرة ترابط خلايا أدمغتهم العصبية التي بدورها تعمل وفق الخبرات أو الممارسات اليومية في عمرهم المبكر, فكلما تنوعت الأنشطة اليومية كلما تضاعفت لديهم ترابط هذه الخلايا والعكس يعني انتحار أو موت الخلايا العصبية التي لم تفعل عبر التجارب أو الممارسات اليومية ولو لفترة معينة.. وأود أن أشير هنا إلى أهمية أن نحيطهم بالحب والرعاية اللصيقة خاصة في السنوات الثلاث - الخمس الأولى.. د. سالم موسى جامعة الملك خالد [email protected]