أخلاقيات القضاء ما قامت السماوات والأرض إلا بالعدل، ولا يستقيم حال الناس إلا بالعدل، فهم في حاجة إلى قضاة يعدلون بينهم، ويفصلون في منازعاتهم، وفي القضاء أحكام وقواعد وآداب لا بد للقاضي أن يلتزمها في حكمه بين الناس. أهمية القضاء بين الناس هو الحكم بين الناس فيما يختلفون فيه؛ وذلك لأنه من ضروريات الحياة، فالواقع أن الناس يحصل من بعضهم اعتداء وظلم وأخذ لغير ما يستحقه، وادعاءات منها ما هو حق ومنها ما هو باطل، فكان لابد أن يكون هناك من يفصل بينهم، ويحسم النزاع الذي يوجد فيما بينهم، ويكون هذا الذي يفصله هو القاضي الذي يحكم بين الناس، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يتولى القضاء في حياته، عندما يختلف اثنان ويتنازعان يترافعان إليه، فيقضي بينهما، ويخبر بمن عليه الحق، ويأمره بأداء الحق الذي عليه، وهكذا الخلفاء بعده، وكان قد أرسل عليه الصلاة والسلام إلى بعض الجهات من يقضي بين الناس، فأرسل معاذاً إلى اليمن، وأمره أن يقضي بين الناس، وأرسل علياً أيضاً إلى جهة أخرى من اليمن، وأمره أن يقضي بينهم فيما يختلفون فيه، وعلمه شيئاً مما يقضي به، فثبت عنه أنه قال: (إذا سمعت كلام الخصم فلا تقضي حتى تسمع كلام الآخر، فإنك تعرف كيف تقضي)، قال علي : فما زلت قاضياً، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، وأقضاكم علي ، وأفرضكم زيد ...) إلخ الحديث، القضاء في الأصل هو الفصل فيما يختلف فيه الناس، قال الله تعالى: يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص:26] والحكم بين الناس هو القضاء بينهم بالحق الذي أنزله الله. ويقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ [النساء:58] أي: إذا قضيتم بينهم فالتمسوا الحق والعدل، فهذا هو المراد بالقضاء، وقد اشترطوا للقضاء شروطاً، واشترطوا في القاضي صفات لابد أن تتوافر فيه، وهي مذكورة في كتب الأحكام وكتب الفقه، لابد أن تتوافر تلك الشروط فيه حتى يتمكن من القضاء، وإذا تخلفت أو تخلف بعضها اختلت أهليته للقضاء. يجب على القاضي تحري السنة في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية لمسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). هذا حديث جامع يعتمد في إثبات السنن وفي رد البدع، فيعتمد في أن القاضي عليه أن يتحرى السنة، وعليه أن يعمل بها، وعليه أن يعمل بما ورد منها، وأن يتجنب القضاء الذي يتبع فيه الهوى، ويتجنب أن يحكم بين الناس برأيه، ويتجنب أن يجور في الحكم، وأن يظلم هذا لهذا، فإن هذا كله خلاف ما أمر الله به، وخلاف ما عليه أمر الله وأمر رسوله، ولا شك أن هذا الحديث جاء في بيان الشريعة، وهو أن شريعة الله سبحانه قد بلغها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالأحكام، وفيما يتعلق بالآداب وبالحلال والحرام، وبالسنن وبالواجبات وما أشبهها. هذا الحديث (من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد) فيه إثبات السنن ورد البدع، وأن كل من عمل عملاً مضافاً إلى الشريعة لا أصل له بالدين فإنه مردود، سواء كان تغييراً في العبادة، أو بزيادة فيها، أو شرعية عبادة أخرى، ويدخل في ذلك الإضافات التي يضيفها المبتدعة سواء في أذكار أو في أدعية أو ما أشبه ذلك. اجتهاد القاضي بما لا يخالف الكتاب والسنة إن القضاء من أمر الله ومن أمر رسوله، وعلى القاضي أن يتقيد بكتاب الله، فإذا جاءه أمر في كتاب الله قضى به، وإذا لم يجد فإنه يتقيد بسنة رسول الله، فإذا لم يجد اجتهد، فإذا قضى مخالفاً لأمر الله فقضاؤه مردود ولو كان من كان، كما لو أمر بمنكر أو نهى عن معروف أو قضى للظالم وظلم بعض الناس، وقضى على هذا بأنه ظالم مع أنه مظلوم، وقضى على هذا بأنه مظلوم مع أنه ظالم، وحكمه يرد إذا ثبت أنه مخالف لعين الصواب، فيقال: هذا مردود؛ لأنه عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله، فاستدلوا بذلك على نقض حكم الحاكم الذي خالف فيه الصواب، ولو كان من كان؛ وذلك لأن الحاكم بشر، وحكمه يصدر عن اجتهاد، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه بأنه لا يعلم الغيب، وإنما يجتهد بحسب ما يصل إليه إدراكه وفهمه فقال: (إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له بنحو مما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها)، يعض بذلك المتخاصمين اللذين اختلفا، هذا يقول: الحق معي، وهذا يقول: الحق معي، فإذا كان أحدهما يعلم أنه كاذب وأنه ظالم فإن حكم الحاكم لا يبرر موقفه، ولا يحل له ما كان حراماً، يقول الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة:188] يعني: إلى القضاة لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:188] فإذا غلط القاضي وحكم لك بشيء من حق أخيك -ولو شيئاً يسيراً شبراً من الأرض أو درهماً أو جزءاً يسيراً من المال- فلا تأخذه وأنت تعلم أنك كاذب لا تستحقه، والقاضي متى تبين له خطأ نفسه فإن عليه الرجوع، والقضاة الآخرون إذا علموا جور هذا القاضي وعرفوا أنه مخطئ في حكمه؛ لم يجز إبقاؤه على هذا، بل يرد حكمه، فيقال: حكمك مردود ولو كنت من كنت. على القاضي ألا يتعجل في البت في القضية قوله: (إن بعضكم قد يكون ألحن من حجته من بعض) يعني: أقوى وأقدر على إظهار حجته، بينما يكون الآخر عيياً ضعيف اللسان، لا يقدر على بيان حجته، وقد يكون الصواب معه، فينقلب الحق عليه، وينقلب الباطل حقاً، والحق باطلاً، فيتوهم القاضي أن هذا هو الصادق، وأن هذا ليس بصادق؛ ولأجل ذلك فإن على القاضي أن يتأنى، وألا يأخذ الكلام على عواهنه، وألا يصدق من يقول بمجرد القول والكلمة، بل عليه التأني والتثبت إلى أن يتضح له الحق، ويظهر له جلياً. وكأنه صلى الله عليه وسلم ينبه القضاة على ألا يعجلوا في البت في القضية حتى يسمعوا كل ما له صلة بهذه القضية، وألا يصدقوا من كان بليغاً في المقال، ومن كان كثير الكلام، حتى يتبين صدقه وأحقية ما قال، ويأخذ أيضاً ما لدى الطرف الثاني، ويتثبت في ذلك، فيعرف القاضي بعد ذلك كيف يقضي، وقد ذكرنا أن علياً رضي الله عنه كان أقضى الصحابة كما روي أنه قال: (وأقضاكم علي)، وأنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعت كلام الخصم فلا تقضي له حتى تسمع كلام الثاني، فإنك ستعرف كيف تقضي)، قال علي : فما زلت قاضياً. حكم القاضي بحسب الظاهر في هذا الحديث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بما يظهر له، وأن بعض الخصمين قد يكون كاذباً، ويعلم كذب نفسه، ويعلم أنه طلب ما ليس له، وأنه اعتدى على حق غيره، إما أنه جحد حقاً عليه لخصمه، وإما أنه عرف تعديه على ملك غيره، وأخذه ما لا يستحقه، وأخذه من ملك لا حق له فيه، أو نحو ذلك، فلا شك أنه إذا عرف ذلك، ثم تقدم إلى القاضي وأراد أن يأخذ بقدر ما يدعيه، فإنه ظالم سواء أتى بشهود زور كذبوا في شهادتهم أو حلف يميناً فاجرة يعرف فجوره فيها، أو أكثر من القول ومن التظلم ومن إظهار الصدق وأنه صادق وأن الصواب معه؛ حتى يوهم من يسمعه أنه مظلوم، وأنه صادق في قوله، فيحكم له القاضي بمجرد قوله، وهو في الحقيقة ظالم وليس بمظلوم، وهو يعلم من نفسه ذلك؛ فلا يحل له ما أخذ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها). هكذا وعظ هذين الخصمين، وأخبر بأنك -أيها الخصم الذي تعرف ظلمك وتعرف عدوانك- إذا كنت عارفاً بأن هذا لا يحل لك، وكنت تعرف أنك معتدٍ بحجتك، معتدٍ في قضيتك، وأن أخاك وخصمك مظلوم معتدى عليه وعلى حقه، فكيف مع ذلك تقدم على هذا؟ إن هذا الذي أخذته ولو استمتعت به في الدنيا؛ فإنه سيكون وبالاً عليك، وستعذب به عذاباً وبيلاً، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع مال أخيه بيمين هو فيها كاذب لقي الله وهو عليه غضبان، قيل: يا رسول الله! وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك) يعني: عود سواك قدر ما يقبضه القابض، ما قيمة هذا العود السواك؟! إذا حلف أنه له وهو ليس له لقي الله وهو عليه غضبان، والله تعالى إذا غضب على عبده فلا يقوم لغضبه شيء. على القضاة نصح الخصوم من واجب القضاة أن ينصحوا الخصوم، ويجب على الخصم ألا يقدم على خصومة وهو يعلم أنه لا حق له في هذه الدعوى التي يدعيها في مال أخيه، بل يعلم أنه معتدٍ ظالم خاطئ في تقدمه بهذه الدعوى، وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم الاعتداء على الحق، حتى قال: (من اغتصب شبراً من الأرض طوقه من سبع أراضين) شبراً من الأرض إذا أخذه بغير حقه جعل طوقاً في عنقه يوم القيامة، فماذا يفعل؟ وهل يستطيع أن يحمله من سبع أراضين؟ جاء في بعض الروايات: (خسف به إلى سبع أراضين)، وهذا فيه التخويف من اغتصاب الأرض، وكذلك اغتصاب الأموال الأخرى، فإنه يأتي بها وهو يحملها كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى ظهره بعير له رغاء) يعني: قد أخذه بغير حقه، (يقول: يا محمد يا محمد! فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته بقرة لها خوار، لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته شاة لها يعار -يعني: ثغار- لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة وعلى رقبته رقاع تخفق -يعني: الأكسية ونحوها- قد أخذها بغير حق)، وهكذا بقية الأموال المغصوبة يأتي بها الظالم يوم القيامة، فالقاضي عليه أن يذكر الخصوم، وأن يبين لهم قبل أن يحكم بأنك أيها الظالم تعرف ظلمك، وتعرف اعتداءك، وتعلم أنه لا حق لك في هذا، ولكن حملك عليه الجشع، وحملك عليه التعدي، فلا حق لك فيه، فترفق وارفق بنفسك، فإن هذا الذي تأخذه تأتي به يوم القيامة، وتعذب به ويكون قطعة من النار، ولو حكم به القاضي فحكم القاضي إنما هو على الظاهر؛ لأنه لا يعلم بواطن الأمور، فلا يصير الحكم حلالاً، قال الله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ [البقرة:188] أي: ترفعوها إلى الحكام ثم تستدلوا بحكم الحاكم أنه حلال، حكم الحاكم لا يغيرها، ولا يجعل الحرام حلالاً، بل هو حرام عليك ولو حكم به عشرون قاضياً، فهو لا يزال حراماً، فحق أخيك المسلم الذي أخذته عدواناً وظلماً لا يصيره حكم الحاكم حلالاً. ما يلحق بالغضب المانع من حكم القاضي قال العلماء: إن الغضب كمثال، ويلحق به كل حالة يكون القاضي فيها ضجراً، فلا يحكم حتى يذهب عنه ذلك الضجر، فإذا جاءه أمر يغمه فلا يقضي وهو مغموم، وإذا اهتم لأمر من الأمور فلا يقضي حتى يزول عنه ذلك الهم، وإذا أتاه ما يحزنه على أمر قد فات من مرض أو موت أو نحو ذلك فلا يقضي حتى يذهب عنه ذلك الحزن، وكذلك لا يقضي في حالة جهد شديد وتعب مضني، ولا يقضي في حالة مرض شديد، ولا يقضي وهو جائع، ولا يقضي وهو ضمآن، ولا يقضي وهو ناعس أو بحاجة إلى راحة، ولا يقضي وهو مهموم بأمر من الأمور، لا يقضي في حالة شدة برد أو في حالة شدة حر أو نحو ذلك؛ لماذا؟ لأن هذه الأشياء تمنعه من التأمل في القضية، ومن التعقل في أطرافها، ومن تتبع الأطراف، وتتبع القضايا، وعرضها على فكره وعقله، فيكون في هذا التسرع ما يسبب خطأه، ويسبب وقوع الغلط في قضائه، فيندم بعد ما يفوت الأوان، فإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عدم القضاء في حالة الغضب يلحق به كل ما يقلق القاضي ويضجره حتى لا يعجل في القضية، ولا يقدم عليها إلا بعد تتبع أطرافها، وهذه إرشادات نبوية لئلا يقع ظلم أو حيف أو اعتداء على بعض الخصوم، فيقع القاضي في الظلم ويتسبب في أخذ الحق من مستحقه.