دخلت مدينة آلما آتا - كبرى مدن كازاخستان - التاريخ يوم أن عقدت فيها منظمة الصحة العالمية مؤتمر الرعاية الصحية الأولية في سبتمبر 1978 . فقد تمخض عن المؤتمر وثيقة آلما آتا للرعاية الصحية الأولية ( Alma Ata Declaration ) التي وقعها مئات المؤتمرين يمثلون أغلب دول العالم. تقول المادة الأولى من الوثيقة... " يؤكد المؤتمر أن الصحة هي التكامل الجسدي والعقلي والاجتماعي وليست مجرد الخلو من المرض. ويعتبر الوصول إلى أعلى مستوى ممكن من الصحة أهم هدف على العالم أجمع أن يسعى إلى تحقيقه ". وتستطرد الوثيقة لتؤكد أن أفراد المجتمع لهم الحق في المشاركة الفعالة في التخطيط والتنفيذ لبرامجهم الصحية. ولا تنتهي الوثيقة ببنودها العشرة حتى تعلن بوضوح أن الرعاية الصحية الأولية هي حجر الأساس للرعاية الصحية في أي مجتمع. قبل أن أستطرد في الحديث عن الرعاية الصحية الأولية أشير الى أن هناك ثلاثة مستويات متعارف عليها للرعاية الصحية: أ- المستوى الأول: الرعاية الصحية الأولية . وتقدم أساساً من خلال المراكز الصحية . يمكنها أن تغطى نحوا من 80 % من احتياجات أفراد المجتمع الى الرعاية الصحية بشقيها العلاجي والوقائي , ذلك لو أحسن التخطيط لها وأحسنت إدارتها . الجدير بالذكر أن نفقاتها لا تكاد تزيد عن 20% من إجمالي نفقات الرعاية الصحية لأنها لا تعتمد على المباني المكلفة أو الأجهزة والمعدات بقدر ما تعتمد على حسن تدريب أفراد الفريق الصحي وتعاون أفراد المجتمع . نشاطات الرعاية الصحية الأولية تشمل : - العناية بالفرد في نطاق الأسرة - العناية بالأم الحامل قبل الحمل وأثناءه وبعد الولادة والعناية بطفلها - تثقيف أفراد المجتمع صحياً. - إشاعة مبادئ التغذية السليمة في المجتمع. - الوقاية من الأمراض المعدية والمزمنة. - الاهتمام بإصحاح البيئة. وكلما كانت هذه النشاطات بمشاركة المجتمع (تخطيطاً وتنفيذاً ومتابعةً وتقويماً) كلما كان ذلك أدعى إلى نجاحها. ب- المستوى الثاني: يقدم من خلال المستشفيات العامة. ج- المستوى الثالث: يقدم من خلال المستشفيات المتخصصة والجامعية. والسؤال الذي يفرض نفسه هو: إلى أي مدى نجحت مراكز الرعاية الصحية الأولية في العالم العربي على مدى ثلاثة عقود , أى منذ عام 1978 في أن توافر الرعاية الصحية الشاملة التي دعت إليها وثيقة آلما آتا؟ الحق والحق يقال , أنها قليلة هي مراكز الرعاية الصحية الأولية في منطقة الشرق الأوسط تلك التي نجحت في تحقيق دعوة منظمة الصحة العالمية إلى تقديم الرعاية الصحية الشاملة. ومن ثم فالمشوار طويل . ونحن في حاجة إلى بذل جهود مضاعفة للوصول إلى الهدف. سوف ألقى الضوء على بضعة نماذج من مراكز الرعاية الصحية الأولية طبقت في أماكن متفرقة. نموذج من إيران: هذا نموذج ناجح للرعاية الصحية الأولية طبق في إيران. بدأ المشروع في أخريات الستينات الميلادية بإنشاء مركز صحي ومعهد للتدريب في قرية رضائية بإيران على الحدود الغربية المتاخمة لأذربيجان. وسرعان ما اعتبرته منظمة الصحة العالمية ً نموذجياً للرعاية الصحية الأولية كما يجب أن تكون ، وأصبحت تنظم زيارات للمهتمين بالرعاية الصحية للإطلاع عليه، وكنت واحداً منهم . زرته في منتصف السبعينات الميلادية، حيث أمضيت في قرية رضائيه –مركز المشروع- بضعة أيام. ولنبدأ الحكاية من أولها. في منتصف الستينات الميلادية أصبح واضحاً للمسئولين الصحيين في إيران أن الرعاية الصحية في الريف الذي يقطنه أكثر من 70 % من سكان إيران متخلفة عن مثيلاتها في المدن. فميزانية الصحة في الريف مغلوبة على أمرها، والأطباء يبحثون دائماً عن فرص العمل في المدن الكبيرة مثل طهران وأصفهان وشيراز. حتى أن مجموعة من الأطباء حديثي التخرج من كلية الطب بجامعة بهلوى في شيراز هاجرت إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، ذلك أنهم لم يجدوا فرصاً للعمل في المدن، ولم يكونوا قد هيئوا في دراستهم الطبية للخدمة العامة والارتفاع بمستوى الصحة في الريف. خططت وزارة الصحة الإيرانية بالتعاون مع كلية الصحة العامة في طهران لتنفيذ مشروع يهدف للارتفاع بمستوى الخدمات الصحية في الريف بغير ما حاجة إلى الأطباء أو قل إلا إلى القليل منهم. ركيزة المشروع هي تدريب مساعدين صحيين يختارون من أبناء وبنات الريف ممن أكملوا الدراسة الابتدائية ومارسوا أعمالهم في الزراعة أو المهن البسيطة , بالإضافة إلى إشراك أفراد من المجتمع في تنفيذ برنامج الرعاية الصحية. هما إذن تحديان وليس تحدياً واحداً. بدءوا المشروع بأن أنشئوا في إحدى القرى (قرية رضائية) معهداً صحيا لتدريب المساعدين الصحيين. واختاروا نحوا من 100 من شباب القرى - فتية وفتيات _ ممن أكملوا دراستهم الابتدائية (فقط) وتخطوا العشرين من العمر. ألحقوهم بالمعهد الصحي ليتدربوا على مبادئ الرعاية الصحية. بعد أن أمضى المتدربون ثلاثة شهور في دراسات نظرية، أرسلوهم إلى القرى للعمل تحت إشراف في وحدات الرعاية الصحية لثلاثة شهور. أعيدوا بعدها إلى المعهد للدراسة النظرية , وهكذا بالتناوب إلى أن أكملوا ثلاث سنوات من التعليم النظري والتدريب العملي. اتخذ المسؤولون الصحيون من بعض بيوت القرويين مقارا لوحدات صحية أسموها بيوت الصحة (Health Houses) وزودوها بالأدوية الأساسية واللقاحات. جعلوا في كل وحدة صحية مساعدتين صحيتين ومساعد صحي. مهمة المساعدتين الصحيتين رعاية الأمهات الحوامل، وتطعيم الأطفال، والتثقيف الصحي وعلاج الحالات المرضية البسيطة. وبعد أن كان الطبيب فيما مضى يعالج في اليوم الواحد 60 مريضاً أصبح يعالج مالا يزيد عن 15 مريضاً. والفائض من وقته يمضيه في الإشراف على المساعدين الصحيين وإصحاح البيئة والنشاطات الوقائية الأخرى. لا أعدم أن يسأل سائل .. أمساعدة صحية حصيلتها من التعليم الابتدائية ومن التدريب ثلاث سنوات يطمأن إليها في التشخيص والعلاج. وهو تساءل وارد لأننا تعودنا على نمط من التفكير يعطى للشهادة أهمية أكبر بكثير من التدريب الجيد. من التجربة العملية وجد أن المساعدين الصحيين إذا ما دربوا تدريباً جيداً على تشخيص وعلاج الأمراض البسيطة والشائعة (والتي تكون 80 % من مجموع الأمراض التي تأتي بالناس إلى المراكز الصحية) فسوف يدركون حدودهم التي عليهم أن يقفوا عندها في علاج المرضى ولا يتجاوزونها. نأتي إلى التحدي الأخر .. مشاركة المجتمع. هذا التحدي يظهر أكثر ما يظهر من خلال عمل المساعدين الصحيين الذكور الذين دربوا على إصحاح البيئة. بدء المساعدون الصحيين نشاطهم بأن نقلوا إلى الأهالي عرض الإدارة الصحية في المنطقة بأن أي مشروع يقام لإصحاح البيئة والوقاية من الأمراض مثل إنشاء المراحيض البسيطة في البيوت أو تمديد أنابيب المياه من منابع الماء إلى القرى سوف تتحمل الإدارة الصحية نصف تكاليفه إذا ما تحمل الأهالي النصف الأخر والذي قد يتمثل في تزويد المشروع بالأيدي العاملة. شاهدت في ما شاهدت في إحدى القرى أنبوباً مد من نبع ماء على مشارف القرية إلى وسطها، فأصبح الأهالي يشربون مياهاً نظيفة بعد أن كانوا يجلبونها من النبع بوسائل بدائية تعرضها للتلوث . في هذا المشروع شارك المجتمع بنصف التكاليف وشاركت الإدارة الصحية بالنصف الآخر، وكان للمساعدين الصحيين الدور الأكبر في انطلاقة المشروع. شاهدت بيوتاً زودت بمراحيض بسيطة وزهيدة الثمن قام بإنشائها المساعدون الصحييون بالتعاون مع الأهالي. تحملت الإدارة الصحية نصف تكاليفها والأهالي النصف الأخر. أخذوني إلى قرية نائية كان الطريق الترابي الذي يصلها بالسوق الرئيسي يوحل في الأيام الممطرة مما يتعذر معه على سكان القرية تسويق محاصيلهم الزراعية. قام المساعدون الصحييون بطرح فكرة تعبيد الطريق على الأهالي وتم المشروع. قدم الأهالي اليد العاملة ومولت الإدارة الصحية بقية التكاليف , وعبد الطريق , مما سهل على القرويين تسويق محاصيلهم الزراعية. لا تسألني عن العلاقة بين تعبيد الطريق والصحة العامة. إذ لا إخالك إلا مدركاً للعلاقة الوطيدة بين الصحة وارتفاع المستوى الاقتصادي للمجتمع وما يتبعه من تعليم أفضل وغذاء أطيب ومسكن أرحب . أمضيت في رضائية ثلاثة أيام أدرس وأتأمل وأسجل ملاحظاتي. في اليوم الأخير كان موعد مغادرتي ظهراً. ذهبت في الساعة التاسعة صباحاً لزيارة إحدى الوحدات الصحية. ولم تكن أي من المساعدتين الصحيتين قد حضرت بعد. أشفقت أن تهتز الصورة المشرقة التي كونتها عن المشروع. بيد أنى ما لبثت غير يسير حتى وجدت الفتاتين مقبلتين ومعهما مجموعة من النساء والأطفال. كان لدى المساعدتين الصحيتين قائمة بأسماء الأمهات الحوامل اللواتي تأخرن عن الفحص الدوري، وقائمة آخري بالأطفال الذين لم يتموا تطعيماتهم . ذهبت الفتاتان لتصطحبا الأمهات والأطفال إلى الوحدة الصحية لفحص الأمهات وتطعيم الأطفال. المسألة لا تحتاج إلى شهادات عليا ليفعلن ما فعلن بقدر ما تحتاج إلى تدريب جيد وإدارة هادفة. بعد ثلاث سنوات من بدء المشروع وحسب الدراسات التي قامت بها منظمة الصحة العالمية وجامعتي جونز هوبكنز وطهران , وجد أن مستوى الصحة العامة في المنطقة قد ارتفع , وانخفضت معدلات الوفيات بين الأطفال الرضع*. في زيارة لي مؤخراً إلى إيران وجدت المشروع الذي بدأ خطواته الأولى التجريبية في رضائيه أمتد إلى بقية إيران. غير أن عامل الزمن فعل فعله. القرية الإيرانية دخلها الماء والكهرباء ومدت إليها الطرق. والمساعدون الصحييون بعد أن كانوا من حملة الابتدائية غدوا من حملة الشهادات الجامعية . لا تسألني عن مدى ما آلت إليه كفاية الأداء ، أو مدى إسهام المراكز الصحية في تعزيز الصحة , أو درجة مشاركة المجتمع. هذه أمور تحتاج إلى بحث مستقل لا أملك حالياً أدواته، فأنا أتحدث هنا عما رأيته وشاهدته قبل 35 عاماً. وبالمناسبة , لست أدعو إلى تطبيق تجربة الرعاية الصحية الأولية في إيران في بلادنا , فلكل أمة ولكل مجتمع ظروفه وبيئته وثقافته، ما ينجح في إيران قد لا ينجح في بلد أخر. وما يتقبله ويطمأن إليه . ساكنوا القرية قد لا يتقبله ساكنوا المدينة. ولكن الذي أدعو إليه هو أن نتعلم من تجارب الآخرين، وأن نجرب كما جربوا حرى بنا أن نفكر قبل أن ننشئ مركزاً صحياً أن نسأل أنفسنا ما الهدف من إنشائه؟ إذا كان الهدف مجرد الكشف على المرضى وصرف الدواء لهم فهو هدف قاصر لا يسهم البتة في الحفاظ على الصحة العامة بله الارتفاع بمستواها. أما إذا كان الهدف هو تقديم الرعاية الصحية الشاملة (العلاجية والوقائية والتطويرية) بمشاركة المجتمع فهو هدف قمين أن نتبناه ونسعى إلى تحقيقه. في هذه الحالة لا بد أن نثير عشرات الأسئلة التي يجب أن نجيب عليها في مرحلة التخطيط. ماذا ؟ ومن ؟ ولمن؟ وكيف ؟ ولكي نجيب على هذه الأسئلة بموضوعية علينا أن نتخلص من النمطية في التفكير التي تدعونا إلى أن ننشئ مركزاً صحياً نوظف فيه مجموعة من الأطباء والعاملين الصحيين ونزوده بكميات من الأدوية ونفتح بابه للعلاج وشيء من الوقاية قليل، نحن إن فعلنا هذا لن يعوزنا رضاء الناس. عامة الناس لا يبغون أكثر من هذا مطلبا. هم يطلبون الطبيب وسماعته وجهاز الضغط والدواء، بخاصة إذا كانت إبراً (نطزهم) بها. أما ما يحتاجونه فعلاً ففي أكثر الأحايين يختلف عن ما يطلبونه ويسعون إليه. هم محتاجون إلى برامج للتثقيف الصحي وإصحاح البيئية وتطعيم الأطفال ورعاية الأمهات الحوامل وتحسين مستوى التغذية والوقاية من تسوس الأسنان. وكل ما أرتفع مستوى الجمهور الثقافي والتعليمي والاقتصادي كلما ضاقت الهوة بين الحاجة والطلب، وكلما تدنت هذه المستويات كلما زادت الهوة أتساعا . استحضر جانبا من ذكرياتي قبل نحو من 40 سنة عندما كنت أمارس الطب في عيادة خاصة في مدينة الرياض. كانت القاعدة المتعارف عليها يومها في المنطقة الشرقية أن يعطى الطبيب أجره في عيادته الخاصة تبعاً لعدد الحقن التي يتلقاها المريض . الحقنة الواحدة بخمسة ريالات والاثنتان بعشرة. وإذا لم يكن هناك حقنة فلا أجرة للطبيب .. ترى كم من جماهيرنا اليوم في البلاد العربية ما زالت تطلب سماعة الطبيب وحبة الدواء أو حقنته ولا تلتفت إلى احتياجاتها الحقيقية. تقول لي 80% أقول لك قد !! نموذج من القاهرة: في منتصف الثمانينات الميلادية استضافتني كلية الطب بجامعة عين شمس بالقاهرة أستاذا زائراً. تسامعت عن مركز للرعاية الصحية الأولية أنشئ حديثاً في أحد أحياء مدينة القاهرة بدعم أمريكي ليكون نموذجاً للمركز الصحي الذي يقدم الرعاية الصحية الشاملة فحرصت على أن ألم به. وجدت فيه مجموعة من شباب الأطباء حديثي التخرج من كلية الطب مفترض فيهم أن يقودوا مسيرة المركز. سألتهم ما الهدف من إنشاء المركز؟ تعددت إجاباتهم ولم تعبر واحدة منها عن الهدف كما يجب أن يكون. مما يوحى بأنه لم تكن هناك خطة عمل مكتوبة بأهداف واضحة يستطيعون أن يتدارسوها ويناقشوها في ما بينهم ومع بقية أعضاء الفريق الصحي ويجمعون أمرهم على تحقيقها. وجدت المركز يعنى بجمع كم وافر من الإحصائيات، ولكنها تحفظ في الأدراج ولا يستفاد منها في التعرف على حاجة المجتمع أو في إعداد خطة العمل. في خلال السنوات القلائل التي أنشئ فيها المركز لم تجر أي دراسة عن المؤشرات الصحية في المجتمع يبنى على أساسها نوعية البرامج التي يجب أن يقدمها المركز، أو نوع المشاركة المطلوبة من أفراد المجتمع. قيل لي أن من بين نشاطات المركز خروج الممرضة والزائرة الصحية إلى المجتمع فرغبت إليهن أن أرافقهن في الزيارات المنزلية لأعرف ما يفعلن . تبدى لي بوضوح أنهن لم يهيأن للدور الذي يجب أن يقمن به. كانت الزيارة الأولى لسيدة تعاني من ارتفاع في ضغط الدم مسجلة في المركز ولم تحضر مؤخراً لمتابعة حالتها المرضية. أمضينا في المنزل ساعة من الزمن ذهب الجزء الأكبر منها في السؤال عن الصحة والأحوال. حاولت الزائرتان في أثنائها إقناع السيدة بضرورة مراجعة المركز الصحي. لم يكن تثقيفاً صحياً بالمعنى الصحيح. الزيارة الثانية كانت لسيدة وضع لها مانع للحمل ولم تراجع المركز للتثبت من وجوده. تكرر في هذه الزيارة ما حدث في الزيارة الأولى. أمضينا ساعات الصباح على هذا المنوال. الحصيلة هي إقناع مجموعة من السيدات بمراجعة المركز. الزيارات المنزلية لم تحقق فائدة مرجوة . عرفت فيما بعد أن هناك مكافأة مالية مقررة لكل زيارة منزلية. ربما كان هذا هو الدافع الرئيسي للزيارات .. والله أعلم. في هذا النموذج توفرت الإرادة السياسية , وتوفر معها المال، ولكن لم تتوفر خطة العمل المبنية على أسس علمية. ولم يهيأ أفراد الفريق الصحي للأدوار التي يجب أن يقوموا بها. نموذج من قناة السويس: في مراكز صحية أخرى قد تتوافر التهيئة المناسبة للأطباء ولكن لا تتوافر الظروف المناسبة لتطبيق ما تعلموه من أسس الرعاية الشاملة وأضرب لذلك مثلاً. استضافتني كلية الطب بجامعة قناة السويس ممتحناً خارجياً لطلاب السنة النهائية بكلية الطب وطلاب الماجستير في الصحة العامة . وهي إحدى كليات الطب الرائدة في العالم العربي التي انتهجت منذ بداية نشأتها في الثمانينات الميلادية أسلوب التعليم الإبداعي الذي يعتمد على خروج الطلاب إلى المجتمع ليتعرفوا على أدوائه ومشاكله الصحية وطرق معالجتها والوقاية منها. كما أنها اتخذت جلسات الحوار أسلوباً في التعليم جنباً إلى جنب مع المحاضرات. لاحظت في امتحاني لطلاب السنة النهائية والماجستير على السواء أنهم على إدراك كاف بدورهم الذي يجب أن يقوموا به في تقديم الرعاية الصحية الشاملة (الوقائية والعلاجية والتطويرية) ، ولكني أردت أن أتأكد إلى أي مدى يطبق الأطباء خريجو الكلية ما تعلموه في حياتهم العملية. رتبت لي الكلية زيارة إلى بعض المراكز الصحية في منطقة قناة السويس. فوجئت بأن الأطباء من خريجي الكلية بالرغم من أنهم تهيئوا لممارسة الطب الشمولي إلا أنهم بعد فترة من العمل في المراكز الصحية التقليدية يصبح همهم الأول هو الكشف السريع على المرضى وصرف الدواء لهم. صاغتهم بيئة العمل في المراكز الصحية بطابعها. ولم يجدوا من يراقبهم ويتابعهم ويقوم أسلوبهم. كما لم يكن هناك خطة عمل يهتدون بهديها. بل أني وجدت بعضهم يتحدث عن المريض فيشير إليه بكلمة "الزبون" إذ أن هذا البعض أفتتح لنفسه عيادة خاصة مسائية يعالج فيها المرضى بأجر. في هذا النموذج توفر التعليم الطبي الجيد ولم تتوافر البيئة الصالحة للعمل أو التوجه السياسي أو خطة العمل الهادفة. نموذج من اليمن: آخذكم معي إلى نموذج أخر ناجح للرعاية الصحية الأولية. دعيت من بين من دعوا من قبل منظمة الصحة العالمية في نهاية الثمانينات الميلادية للمشاركة في وضع مناهج كلية طب صنعاء. كان عميد كلية الطب يومذاك الدكتور أبو بكر القربى وزير الخارجية فيما بعد. انتهزت فرصة زيارتي لليمن لأزور مركزاً صحياً في إحدى القرى بين صنعاء والحديدة. كانت وزارة الصحة اليمنية قد أعلنت آنذاك أنها تتبنى دعوة منظمة الصحة العالمية لإنشاء مراكز الرعاية الصحية الأولية التي توفر العلاج والوقاية والتطوير للمجتمع. وذكرت الوزارة أن أهم ركائز الرعاية الشاملة تدريب مساعدين صحيين يختارون من بين أفراد المجتمع بالإضافة إلى مشاركة المجتمع في تخطيط وتنفيذ الرعاية الصحية. ولكن لظروف الميزانية فإن الوزارة لن تستطيع أن تقدم إلى المجتمع أكثر من تدريب المساعدين الصحيين وتغطية رواتبهم وتوفير الدواء واللقاحات. ومن ثم فالقرى التي تريد أن توفر لنفسها رعاية صحية أولية، عليها أن تسهم بأمرين. - اختيار المساعدين الصحيين لتدريبهم. - وتوفير المبنى الملائم ( من بيوت القرية ) للمركز الصحي. القرية التي زرتها حظيت بشيخ لها حكيم جمع حوله أفراداً من أهلها للتشاور وترتيب الأمر.قرروا أن يختاروا فتى تقوم وزارة الصحة بتدريبه ليصبح مساعداً صحياً .. واهتدوا إلى شاب يعمل في السعودية. أقنعوه بالعودة إلى اليمن والانضمام إلى المشروع براتب شهري أقل من دخله في السعودية. بحثوا عن فتاة لتتدرب كمساعدة صحية. ووجدوها في قابلة القرية، امرأة أميه لا تقرأ ولا تكتب. رحبت بالانضمام إلى المشروع. أرسلوا الفتى والسيدة إلى صنعاء للتدريب. وفي نفس الوقت اختاروا بيتاً شعبياً من بيوت القرية ليكون مقراً للمركز الصحي. وبعد أن عاد الشاب والسيدة من برنامج التدريب وفرت لهما الوزارة بمساعدة منظمة الصحة العالمية واليونيسيف الإمكانات البسيطة والأساسية للرعاية الصحية. تسألني ماذا رأيت في زيارتي للقرية؟ - الشاب أسهم فيما أسهم بالتعاون مع أفراد المجتمع في مد أنبوب من نبع ماء من سفوح الجبال إلى القرية فأصبح السكان يشربون مياهاً نظيفة .. سيؤدي ذلك بداهة إلى ارتفاع مستوى الصحة وانخفاض معدل الوفيات بين الأطفال . - السيدة الأمية التي تدربت كمساعدة صحية. زودت بحقيبة من حقائب اليونيسيف تحتوي على معدات بسيطة تساعد على إجراء الولادات الصحية النظيفة .. دربت على أن تغسل يديها بالماء والصابون قبل أن تباشر عمليات الولادة، وأن تعقم آلاتها البسيطة بماء مغلي، كما تعلمت كيف تباشر عملية التوليد بأسلوب صحيح. كلها أشياء قد تبدو لك يا قارئي العزيز أموراً بدهيه ولكنها مع الأسف لا تمارس بشكل صحيح في المجتمعات الريفية. ومن هنا كانت مضاعفات الولادات والوفيات عالية بين الأمهات والأطفال حديثي الولادة. لا يزال يحضرني منظر المساعدة الصحية الأمية التي تدربت عملياً بدون أن تقرأ كتاباً أو تخط حرفاً وقد فرشت أمامها ملاءة نظيفة رتبت عليها محتويات صندوق اليونيسيف من شاش معقم، وقطن وملاقيط، وسوائل للتطهير، وراحت تشرح لي باعتزاز وسيلتها في مباشرة عمليات الولادة. ما زلت استحضر أمامي الآن وبعد أكثر من 20 سنة منظر شيخ القرية ومعه رهط من قومه يصحبونني باعتزاز لأشاهد نبع الماء عند سفح الجبل والذي عملوا بأيديهم على مده بأنابيب إلى القرية، أخذوني إلى البيت الشعبي الذي تطوعوا بتوفيره ليكون المركز الصحي. وجدتهم يتذاكرون بفخر كيف أن القابلة والمساعد الصحي قد أسهما في تطعيم الأطفال والتثقيف الصحي وإصحاح البيئة. قد يقول قائل .. ولكن ما حاجتنا في دول الخليج أو في الدول العربية الأخرى إلى قابلة أميه ندربها ونحن عندنا حاملات لشهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراه ؟ وما حاجتنا إلى بيت شعبي يتطوع به سكان القرية لنجعله مقراً للمركز الصحي ولدينا ميزانية للصحة بمئات الملايين من الريالات؟ نعم هذا صحيح. ولكننا في حاجة إلى جوانب أخرى نفتقدها. نحن في حاجة إلى مشاركة المجتمع في التخطيط والتنفيذ وحتى بالتمويل الجزئي. فمن خلال المشاركة الفعالة يصبح أفراد المجتمع مسئولين ضمنياً عن تحقيق أهداف الرعاية الصحية بل وسيكونون سعداء بهذه المشاركة وفخورين بها. مرة أخرى لست أدعو إلى تطبيق تجربة اليمن بحذافيرها لدينا أو في أى بلد آخر , كما أني لم أدع من قبل إلى تطبيق تجربة إيران بحذافيرها .. ولكنني أدعو إلى أن نتعلم من تجارب الآخرين, وأن لا نخشى خوض التجربة .. سوف نصيب ونخطئ ولكننا في النهاية سنتعلم. لم تفرغ جعبتي بعد من نماذج الرعاية الصحية الأولية. أستأذنكم في إضافة بعدا آخر له دلاله ألا وهو دعم وزارة الصحة ليس المالي فقط وإنما الأدبي أيضاً للرعاية الصحية الأولية. الظاهرة التي لاحظناها أنا وزملائي من أعضاء المجلس العربي لطب الأسرة والمجتمع في زياراتنا المتكررة للبلاد العربية ولقاءاتنا مع المسئولين فيها أنه كلما تولى وزارة الصحة وزير جديد نشط , جعل جل همه تطوير المستشفيات , ولا يكاد يلقى بالا يذكر إلى مراكز الرعاية الصحية الأولية. وما تكاد تمضى سنوات ثلاث أو أربع حتى يبدأ الوزير في إدراك أهمية مراكز الرعاية الصحية الأولية وأنها خير وسيلة للوقاية من الأمراض والحد من تكاليف المستشفيات. وفي كثير من الأحوال يأتي هذا الإدراك وقد اقتربت مدة توليه منصب الوزارة إلى نهايتها وتبدأ الدورة من جديد. النمط الغالب للرعاية الصحية في البلاد العربية هو النمط السهل المريح الذي يلبي طلبات الجماهير أكثر مما يسد احتياجاتهم. مبنى ينشأ أو يستأجر يعمل فيه طبيب ومساعدون صحيون وتوفر فيه كمية من الأدوية لعلاج المرضى، وقد يقدم من خلاله القليل من الرعاية الوقائية تتمثل غالباً في تطعيم الأطفال والحد الأدنى من التثقيف الصحي. هذا المركز الصحي التقليدي إذا أريد له أن يتحول إلى مركز صحي متطور لن يكون ذلك بين يوم وليله. وإنما بخطة عمل هادفة مبنية على أسس علمية. لن يتم هذا التحول إلا إذا تحولنا نحن كمسئولين عن الرعاية الصحية (مخططين وإداريين صحيين وأساتذة في كليات الطب والعلوم الصحية ) من فكرة الاستجابة إلى طلبات الجمهور بتوفير ما يطلبونه من طبيب وأجهزة ودواء إلى ما يحتاجونه من علاج ووقاية وتطوير. ولي آمل كبير في أن تحمل لنا الأيام القادمة تحولاً جذرياً في مفهوم الرعاية الصحية الأولية. ً. آن لي أن أختتم فصل الرعاية الصحية الأولية. ولكن ليس قبل أن ألخص القضية في كلمات. الرعاية الصحية الأولية هي الركيزة لأي خدمات صحية جيدة. سواء كانت في شمال أوربا أو أواسط أفريقيا. ذلك لأنها متصلة بالناس وبثقافاتهم وأسلوب حياتهم. لا يمكن أن يرتفع مستوى الصحة في المجتمع إلا إذا أرتفع مستوى الرعاية الصحية الأولية فيه. ولكن أي رعاية صحية أولية نعنى؟ أتراها تلك التي يجلس العاملون فيها داخل جدران المركز يستقبلون المرضى ويعالجون أدواءهم بعد أن يكونوا قد أصيبوا بها؟ لا .. وإنما هي المراكز الصحية التي تفتح أبوابها ومنافذها .. يخرج العاملون فيها إلى المجتمع .. يعالجون أسباب أدوائه لا نتائجها فقط .. يقومون بالتثقيف الصحي، وتطعيم الأطفال، ورعاية الأمهات الحوامل، وإصحاح البيئة، وتطوير التغذية. يعملون على هدى خطة عمل مكتوبة ومحددة الأهداف. يقيسون المؤشرات الصحية في المجتمع مستفيدين منها في وضع الأولويات. يشركون معهم ثلة من أفراد المجتمع في التخطيط والتنفيذ والمتابعة والتقويم . وأخيرا وليس آخرا يقومون إنجازاتهم ليس بعدد المرضى الذين عولجوا ولا بكميات الأدوية التي صرفت، وإنما بمعدلات الأمراض والوفيات التي انخفضت. الرعاية الصحية المنزلية: لابد لي قبل أن أنهي حديثي عن الرعاية الصحية الأولية إلى أن أشير في عجالة إلى الرعاية الصحية المنزلية وهي وجه من وجوه الرعاية الصحية الأولية تقدم داخل المنزل بالتعاون بين الفريق الصحي وأسرة المريض. هي اليوم في مرحلة الطفولة في شكلها الحديث. وإن كانت قد عرفت ومارسها البشر قبل أي نمط آخر من أنماط الرعاية الصحية. ولا أستبعد أن يأتي يوم ليس ببعيد تكون فيه هي القاعدة الأساس في الرعاية الصحية. في زيارة لي منذ سنوات إلى مدينة توسون بولاية أريزونا بأمريكا أخذني صديقي الأستاذ الدكتور/ توني فوتورو عميد كلية الطب إلى زيارة أسرة مكونه من زوجين كلاهما تخطى السبعين من العمر , يشكوان من أمراض الشيخوخة. لم يعودا في حاجة إلى الذهاب إلى المستشفى. فالممرضة وأخصائي العلاج الطبيعي والأخصائية الاجتماعية يتناوبون على زيارتهما في المنزل حسب الحاجة. وفي كل مرة يتم الاتصال مع الطبيب في المستشفى اليكترونياً بالصوت والصورة لشرح الحالة المرضية وتلقى توجيهات الطبيب. قال لي صديقي د. فوتورو لو أن كل ما سبق أن عمله خلال سنوات عمره نسى وذكر له فقط أنه أسهم في وضع أسس الرعاية الصحية المنزلية في مدينة توسون لكفاه ذلك. الرعاية الصحية المنزلية لا تعتمد فقط على التقنيات الحديثة. إذ يمكن تطبيقها في كل المجتمعات وبمختلف الوسائل. وأبسط دليل على ذلك ما قامت به جامعة جونز هوبكنز في الستينات من القرن الماضي في قرى نارينجوال في الهند إذ حولت مسئولية معالجة حالات الإسهال لدى الأطفال وما يتبعها من جفاف من المركز الصحي إلى الأم في المنزل فتدنت بذلك معدلات الوفاة بين الأطفال*. وما قام به د. ديفيد مورلي في أفريقيا من تهيئة الأم التي لا تقرأ ولا تكتب لتكون مسئولة عن متابعة وزن طفلها بدلاً من الطبيب** . ---------------------------------- *King Maurice (Ed), 1983. The Iranian Experiment in Primary Health Care: The West Azerbaijan Project. Oxford University Press, Oxford, UK.Taylor and Parker ,Integrating PHC services: evidence from Narangwal, India* Health Policy Plan..1987; 2: 150-161 Meegan M, Morley D, (1999) Growth Monitoring; Family participation: Effective ** Community Development. Trop. Doc. 29 23-27