بدأت الحياة تدب في مفاصل السياسة الخارجية السعودية وشرايينها الاقليمية والدولية بعد ترتيب معظم اركان البيت الداخلي، وانتهاء فترة الحداد على العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز وينعكس هذا التطور في تحركين رئيسيين: الاول: استضافة الرياض ثلاث قمم خليجية دفعة واحدة في غضون ثلاثة ايام، الاولى بين العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز وامير الكويت الشيخ صباح الاحمد، والثانية بين العاهل السعودي والشيح محمد بن زايد ولي عهد امارة ابو ظبي ورجلها القوي، والثالثة بدأت اليوم من خلال زيارة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني امير دولة قطر واستقباله من قبل العاهل السعودي. الثاني: استضافة الرياض يوم غد الاربعاء لقادة جيوش التحالف الستيني الذي تقوده الولاياتالمتحدة ويشن حربا للقضاء على "الدولة الاسلامية" بهدف معلن هو تقييم هذه الحرب وتبادل المعلومات بشأنها. التحرك الاول ربما يكون الاكثر اهمية، لانه يتعلق بالملف الخليجي الاكثر سخونة، اي الخلاف القطري مع ثلاث دول خليجية هي الامارات والبحرين الى جانب المملكة العربية السعودية، وهو الخلاف الذي كان محوره دعم قطر لحركة الاخوان المسلمين في مصر، واستضافتها وتجنيسها لمعارضين خليجيين. المسؤولون الخليجيون قليلو التصريحات عندما يتعلق الامر بالشؤون الخليجية عموما، والخلافات البينية على وجه الخصوص، وهذا ما يفسر حالة الصمت الاعلامي التي تخيم على مضامين هذه القمم الخليجية الثلاث والمواضيع التي تناولتها، لكنه لا يخفي عن المراقب المتابع ان هناك ازمة في العلاقات الخليجية عنوانها الابرز انهيار المصالحة وعودة العلاقات القطرية مع الدول الثلاث التي سحبت سفراءها من الدوحة الى الربع الاول بعد وفاة راعيها الملك عبد الله بن عبد العزيز. نشرح اكثر ونقول ان التزام السلطات القطرية باتفاق الرياض التكميلي الذي جرى التوصل اليه من قبل وزراء دول مجلس التعاون في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي واعاد السفراء، واسس لمصالحة قطرية مصرية قد "تآكل"، حسب ما قالته مصادر خليجية ل"راي اليوم"، فقد عادت قناة "الجزيرة" الى سيرتها الاولى من حيث تبني حركة "الاخوان" وخطابها "التحريضي" ضد النظام المصري، وفعل الدكتور يوسف القرضاوي الشيء نفسه، وبات يطالب ب"الثورة" لاطاحة نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي وحكمه، ووصل الامر بوكالة الانباء المصرية الى اتهام قناة "الجزيرة" ب"فبركة" صور لاطفال ليبيين قالت انهم قتلوا اثر قصف الطائرات الحربية المصرية لمدينة درنة معقل الاسلاميين المتشددين شرق ليبيا، وقالت ان هذه الصور قديمة ولاطفال ماتوا اختناقا بالغاز في مدينة بنغازي. الاماراتوالكويت تدعمان الرئيس السيسي وحكمه بقوة، وتريدان من العاهل السعودي الجديد الملك سلمان بن عبد العزيز ان يحذو حذو اخيه الراحل الملك عبدالله ويستمر على النهج نفسه، ولكن هناك مؤشرات تقول بأن الملك سلمان يبدو اقل حماسا في دعم الرئيس السيسي، واقل عداء لحركة الاخوان المسلمين، وانعكس ذلك في تصريحات نسبت الى الامير سعود الفيصل وزير الخارجية ادلى بها قبل ثلاثة ايام، وقال فيها ان بلاده لا تعادي حركة "الاخوان" بالمطلق وانما مجموعة صغيرة متطرفة داخلها. تراجع الملك سلمان بن عبد العزيز عن سياسة شقيقه الراحل في تقديم الدعم المطلق للرئيس السيسي قد تبعده عن دولة الامارات والبحرين والكويت، وتقربه في الوقت نفسه من دولة قطر والعكس صحيح، والوضع لا يحتمل حلا وسطا، او مسك العصا من الوسط، حسب قول المصدر الخليجي نفسه. المملكة العربية السعودية بحاجة الى الدول الخليجية ودعمها في الملف اليمني الذي يشكل تهديدا مباشرا لها، مثلما هي بحاجة الى الدعم نفسه في مواجهة "الدولة الاسلامية" التي تشكل خطرا اكبر وتحاصرها، اي المملكة، من الشمال والجنوب، وبالامس اصدر الخليفة ابو بكر البغدادي قرارا بتعيين اميرين لكل من مكةالمكرمة والمدينة المنورة مؤكدا النظرية التي تؤكد ان هدفه الاكبر جعلهما او احدهما العاصمة الدائمة لدولة الخلافة التي اعلن عن قيامها في خطبته الشهيرة والعلنية في الجامع النوري الكبير في الموصل في رمضان الماضي. وجود العاهل السعودي الجديد على رأس مستقبلي امير قطر في مطار الرياض يوحي بالكثير نظريا، لكن هذا لا يعني ان العلاقات تسير على ما يرام، والمسؤولون السعوديون بارعون في اخفاء مشاعرهم الحقيقية ويظهرون مالا يبطنون في احيان كثيرة، وحسب مقتضيات السياسة. العاهل السعودي الجديد سيجد نفسه، وخلال الايام القليلة المقبلة مضطرا لاتخاذ مواقف حاسمة تجاه المصالحة الخليجية اولا، والعلاقات مع مصر ثانيا، وكيفية التعاطي مع الانهيار الحاصل في اليمن وهيمنة التيار الحوثي على معظم ارجائه، وكذلك تمدد "الدولة الاسلامية" في ليبيا بعد تثبيت اركانها ولو مؤقتا في العراق وسورية. مرحلة الحزن والعزاء انتهت، وكذلك مرحلة تثبيت الموالين في مفاصل الحكم وترتيب البيت الداخلي، وحان الآن وقت اتخاذ القرارات الاصعب، واظهار الوجه الحقيقي للسياسات السعودية الاقليمية والدولية وبأسرع وقت ممكن في ظل الازمات المتفاقمة في كل ارجاء المنطقة.