«أنت طالق بالثلاث». كثيراً ما يطلقها عوام، ورجال غاضبون على نسائهم في السعودية وخارجها، إلا أن تلك الجملة ما إن تخرج من فم أزواج، حتى تنقل المعركة من بيت الزوجية، إلى ردهات المحاكم، ومجالس الفقهاء، وكواليس الحلق العلمية والمدونات الفقهية. ويقول تقرير أعده الكاتب مصطفى الأنصاري لصحيفة "الحياة"، أن السعودية التي اشتهرت بوصف نفسها الأكثر عناية بلزوم تعاليم الفقه الإسلامي، احتفظت المسألة فيها بحساسية خاصة، ذلك أنها وإن كانت اشتهرت أخيراً بأن الجدل فيها محسوم لمن يرى من الفقهاء أنها «تحسب طلقة واحدة»، إلا أن ذلك الحسم سبقه سجال واختلاف شديد بين مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم، وتلميذه الذي أعقبه في الإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن باز. ويوثق الباحث السعودي الشيخ ياسر بن ماطر المطرفي، كيف واجه الشيخ ابن باز ضغوط شيخه محمد بن إبراهيم آل الشيخ، الذي حاول منعه من الخروج عن عباءته الفقهية في هذه المسألة، التي كان ابن إبراهيم، يرى احتسابها «ثلاث طلقات» بدلاً من واحدة، كما يرى ابن باز، الذي اقتنع بترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الذي دخل السجن وواجه التعذيب بسبب إعلانه رأياً صريحاً بأن المطلق زوجته ثلاثاً في لفظ واحد، تحسب عليه «طلقة واحدة»! المطرفي تتبع المسألة في بطون مدونات التراث إلى جانب الواقع الميداني في التجربة السعودية، ورصد بلاغات وخطابات صارمة، نقض فيها ابن إبراهيم فتوى تلميذه القاضي ابن باز في المسألة. وكان لافتاً لجوء شيخ الديار إلى السلطة السياسة من خلال مخاطبته الملك عبدالعزيز، طالباً منه منع ابن باز من الإفتاء بقول يناقض ما يجري عليه العمل في المؤسسة الدينية الرسمية. إلا أن الشيخ ابن باز الذي اشتهر بصرامته المبادئية، صمد في وجه ضغوط آل الشيخ، حتى انتهت إليه رئاسة الفتوى، وبات قوله في المسألة هو الذي عليه العمل إلى هذا اليوم، كما يؤكد الباحث، الذي نبه إلى أن مؤازرة الشيخ ابن عثيمين لابن باز في تثبيت الإفتاء بعدم وقوع الثلاث طلقات، مكّن المسألة الفقهية من الدخول في دائرة النقاش المباح، بل غدت هي الأصل. فتوى الطلاق.. قصة الامتحان ------------------------------ أكد المطرفي في كتابه عن «حركة التصحيح الفقهي»، أنه «منذ وقت مبكر في التاريخ الفقهي، والوعيد يلاحق كل من يحاول الاقتراب من فتوى الطلاق، فعدد من العلماء طالبوا بإيقاع العقوبة والنكال على من تبنى القول بفتوى الطلاق، يقول ابن بطة (ت:387): «لا يفسخ نكاح قاضٍ إذا كان تأول فيه تأويلاً، إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة أو طلق ثلاثاً في لفظ واحد، وحكم بالمراجعة من غير زوج، فحكمه مردود وعلى فاعله العقوبة والنكال». ويصل الأمر عند ابن العربي المالكي (ت: 543) أن يقول: «ما ذبحت بيدي. ولو وجدت من يرد المطلقة ثلاثاً لذبحته بيدي». وأما أحمد بن يوسف المرداوي الحنبلي (ت:850) فيقول فيمن تبنى هذا القول: «وعلى ولي الأمر - أيده الله - ضربه. وتعزيره من أكبر مصالح المسلمين! لأنه يغرر بالعامي فيوقعه في حرام، والعامي لا يعلم بذلك». تلك الأقوال النظرية في امتحان من يقول بهذا القول وعقوبته والتنكيل به، لم تكن لتُثني ابن تيمية من خوض المعركة في التصحيح فيها، إذ لقيت تلك الأقوال صدى على أرض الواقع، وتحولت إلى واقع عملي، وابن تيمية واحد ممن ناله شيء من هذا التنظير، فعُوقب وعُزر ونُكل به وسُجن، ومنها تحول الموقف من هذه المسألة إلى موقف امتحان على أرض الواقع. من هنا أصبح تأييد قول ابن تيمية فيها يعني أن صاحبه سيخوض نضالاً عسيراً مع الآخرين، وسيتحمل لقاء موقفه هذا: الاتهام، والأذى، والملاحقة من الفقهاء أو من السلطة. بين ابن إبراهيم.. وابن باز ------------------------- كان ذلك في القرون الماضية، التي عاصرها الشيخ ابن تيمية، وقبلها وبعدها، إلا أن حدة الاختلاف حول المسألة وإن كانت تراجعت يسيراً في القرن الماضي، إلا أن الباحث كشف أن السعودية هي الأخرى شهدت جانباً منه. وها هو المطرفي يروي جانباً منه في كتابه الذي خص «الحياة» بنصه: استقرت الفتوى عند أئمة الدعوة النجدية على عدم العمل بقول ابن تيمية - كما سبقت الإشارة لذلك - وإن كان ثمة إقرار بأن المسألة ليست إجماعية وإنما هي مسألة خلافية. استمر العمل بذلك إلى وقت الشيخ محمد بن إبراهيم (ت:1389) مفتي المملكة قبل الشيخ عبدالعزيز بن باز (ت:1420) الذي تولى المنصب ذاته بعد وفاة الأول، يؤكد هذه الاستمرارية الشيخ ابن إبراهيم فيقول: «وقد كان من المعلوم دروج إمام الدعوة وأتباعه من أئمة الموحدين المجددين لهذا الدين من أولاده وأحفاده وتلاميذه من فحول المحققين الدارجين على مدرج سلفهم الصالح من الصحابة والتابعين وسائر أئمة الدين، وإن لم تكن المسألة إجماعية كما ذهب إليه من ذهب فهي مسألة القول فيها بما قدمناه مدعم بالأصول الشرعية». وفي فتوى أخرى يؤكد على اعتبار الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثاً، وينقد فيها من ينتقد هذا القول ممن يعتبرونه منافياً لسنة الرسول، وأن حكمهم هذا لا يصدر إلا ممن قلَّ علمه وضعف فقهه، فيقول: «اطلعت على سؤال محمد بن عبدالرحمن... عن طلاقه زوجته بقوله: أنت طالق باتاً بالثلاث. والجواب: الحمد لله. الذي أفتي في هذه المسألة وقوع الثلاث وعدم صحة الرجعة، اكتفاء بأثر الخليفة الراشد فاروق الأمة الملهم المحدث، حيث رأى برأيه الصائب السديد الذي لم يخرج عن الحق وأصول الشريعة المطهرة قيد شعرة في إمضاء الطلقات الثلاث عقوبة شرعية على ركوب الأحموقة، وعلى اللعب بكتاب الله وعلى استعجال من صدر منه في أمر كان له فيه أناة، ومنذ ذلك العصر الطاهر عصر عمر والصحابة فمن بعدهم إلى يومنا هذا والفتوى في هذه المسألة بذلك، ولا يعد ذلك منافياً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من قل عمله وضعف فقهه عن الله ورسوله». لكن الفتوى في وقته بدأت تتحول، وبدأ الشيخ يراسل كثيراً كل من خالف هذه الفتوى حفاظاً على استقرار الفتيا بها، وأنه لا ينبغي لأحد في هذه البلاد الفتيا بخلاف ذلك، معتبراً أن هذا الاختلاف شر ومخالفة للخليفة الراشد عمر رضي الله عنه، يظهر ذلك في مراسلاته لمن أفتى برأي ابن تيمية، ففي رسالة أرسل بها الشيخ لأحد القضاة منكراً عليه فتياه بقول ابن تيمية يقول فيها: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد اطلعنا على كتابكم رقم (10512) وتاريخ 1-7-1380ه، ومشفوعة استدعاء إبراهيم... يطلب الإفادة عمّا صدر منه من طلاق امرأته، كما اطلعنا على ما أفتى به قاضي المستعجلة الثالثة والمجاهدين بأن له رجعتها. وبمطالعة الاستدعاء وما أفتى به القاضي المذكور، نفيدكم أن الذي عليه الفتوى وقوع مثل هذا الطلاق ثلاثاً، والذي عليه الجماهير من أهل الفتوى أن الطلاق بالثلاث مجموعة أو مفرقة من غير أن يتخللها رجعة أو تخللتها سواء في إبانة تلك المطلقة وأنه لا رجعة له عليها، فلا ينبغي لأحد أن يفتي بخلاف ما عليه الفتوى في عموم المحاكم في سائر أنحاء المملكة، لما في ذلك من الاختلاف الذي هو شر ومخالفة لما رآه الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ووافقه عليه الصحابة، حتى ادُّعي ذلك إجماعاً إلا أن دعوى الإجماع لا تصح، وفق الله الجميع لما فيه الخير والصواب. والله يحفظكم». ثم بدت عدة عوامل بعضها خارجي وبعضها داخلي تفرض تغيُّرا في استقرار هذا القول، وتُغير من مساره، الأمر الذي لم يتوان الشيخ ابن إبراهيم في مواجهته والتحذير منه. من خلال تحليل تلك الوثائق التي تضمنتها مجموع فتاويه، يمكن تسجيل جملة من التحديات التي أثَّرت على استقرار هذا القول. المؤثرات أو التحديات الخارجية: -------------------------------- في حينها؛ بدأ الناس يتسامعون بأن ثمة فتوى أخرى خارج نطاق هذه البلاد تفتي بغير ما استقر القول فيها. بدا ذلك في سؤال تحتفظ به مجموع فتاوى الشيخ ابن إبراهيم، يقول فيه السائل: س: - مصر تسير على قول الشيخ - أي ابن تيمية -؟ فيجيب الشيخ - ابن إبراهيم - بقوله: ج:- لأجل تمشيه على قوانينهم، فقوانينهم مجموعة من اثنين وعشرين دولة، ومضموم إليها من قول الإباضية، كلما بلغهم عن أحد قول يوافق هواهم أخذوا به، وهذا سلخ للشرع، وأيضاً إذا سلخوه بشيء سلخه في الباقي مثله، وهذا ينقض شهادة أن محمداً رسول الله». لكن الأمر تجاوز مجرد السؤال، إلى الذهاب لأولئك المفتين من تلك الدول المخالفين للمُفتى به داخلياً، فقد رحل سائل إلى بعض المشايخ خارج المملكة ليسألهم عن هذه المسألة لمَّا قُضِيَ عليه بالتفريق بينه وبين زوجته، فذهب ليُغيِّر في صفة طلاقه لعلَّه أن يجد له مخرجاً، فأرسل له الشيخ محمد بن إبراهيم رسالة يقول فيها: «من محمد بن إبراهيم إلى المكرم عبدالرحمن بن إبراهيم... هداه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: فقد جرى الاطلاع على استفتائك وافتياتك وتأكد لنا بعد التحقيق من سوء تصرفاتك حينما تتقدم إلى قاضي جهتكم وتذكر له أنك طلقت زوجتك بالثلاث، وحين أفتاك بالمقتضى الشرعي بطلاقك ذهبت إلى مفتي الأردن، وذكرت له من أن طلاقك غير ما ذكرته لقاضي جهتكم، وتذكر أن القاضي لديكم حينما علم بتصرفاتك السيئة أخذ الأوراق منك وحبسك ساعة، والحقيقة أن القاضي عفا الله عنه متسامح معك، وإلا فأنت تستحق عقوبة بالغة من حبس وجلد وتوبيخ، وما أجراه فضيلة القاضي معك من تفريقه بينك وبين مطلقتك، وأخذه التعهد عليك بلزوم الأدب والامتثال لمضمون الفتوى الصادرة من فضيلته إجراء في محله، ويلزمه ذلك، ويلزمك الانقياد لمقتضاه والسلام عليكم».