الوطن - السعودية "أهملت "الصحوة" الكثير من المبادئ الإنسانية كالعدل بمفهومه الشامل، ووقفت جامدة أمام كثير من مخرجات الحضارة الإنسانية الحديثة بسبب الجمود الفقهي والفكري الذي نعاني منه فيما نترقب يوما نبحث فيه مشاكلنا بعقل عصري" جاء الإسلام قبل قرابة 15 قرنا بالكثير من المبادئ الإنسانية التي يتفاخر بها الغرب والشرق اليوم، وفي تلك الفترة الكالحة والمُغرِقة في الجهل والظلام، جاءت مُثُل الإسلام بالمبادئ الإنسانية العادلة بين البشر. فحرم الظلم تحريما مطلقا، بل حرمه الله تعالى على نفسه، حتى مع الأعداء وفي الحرب، فإن الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى)، قال الإمام ابن جرير في تفسير الآية: "ولا يحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة". جاء الإسلام أيضا بالكثير من المبادئ الإنسانية من تحريم التجسس والبحث في نوايا الناس، ولم يربط الإسلام أي استحقاق على أساس العرق أو اللون أو حتى الانتماء، فمن كان له حق أو مظلمة، فإن الإسلام يكفلها له حتى لغير المسلمين. كانت العنصريات في تلك الفترة في أوجها وخاصة عند العرب، فلم تكن لهم تجمعات حضرية سوى القبيلة، وهو تجمّع يعتمد على العنصر أيضا، كذلك المجتمعات الأوروبية كانت تتراكم فيها العنصريات والطبقات بين البشر إلى القرن التاسع عشر وربما إلى القرن العشرين! إلى أن تطورت الحضارة الإنسانية كثيرا فيما يتعلق بالحقوق والحريات، بينما تلك الأصول جاء بها الإسلام قبل 15 قرنا! لم يتوقف هذا التطور الإنساني والحضاري، واستمر يتطور بشكل إيجابي في العالم نحو الحقوق والحريات بشكل عام، إلا أن أسوأ منطقة في هذا المجال هي منطقتنا للأسف، المنطقة المشتعلة بالحروب والصراعات بشتى أشكالها العنصرية والعرقية والطائفية والدينية وهكذا. ومن أسوأ نتائج المراحل المشتعلة أنها تعمل على عرقلة وربما العودة للوراء على صعيد التطور الإنساني والحضاري، حيث يسود غالبا في هذه المراحل التشنّج والاندفاع أكثر من العقل والحكمة. هذا ما يحصل في منطقتنا وللأسف، حيث كلما هدأت الأمور وبدأ يسود منطق الحوار والتسامح والتعايش، جاء ما يشعل المنطقة ويحرق كل الجهود نحو التطور الإنساني والحضاري للمنطقة! لن أقول إنها مؤامرة الأعداء، بل هي مؤامرتنا على أنفسنا! وللأسف بعد وقوع أي حدث مأساوي، يأتي بعض الجهال ليستغلوا مثل هذا الفشل للدفاع عن منطقهم المتشدد بأن هذا نتيجة مساعي الحوار والتعايش! ونسُوا أن أهم عامل لإشعال المنطقة هو التطرف والتشدد المتضاد والمتقابل من أغلب التيارات السائدة! وإذا نظرنا إلى العديد من الخطابات حول هذا الموضوع وجدناها تتحدث وبعنف ربما عن الآخرين، وتشير بأصابع الاتهام والمؤامرة إلى الغير، بينما البحث والتفكير في أنفسنا نوع من الهرطقة العصرانية المُنكرَة! أعود لعنوان المقال، وهو من أهم المبادئ الإنسانية الحديثة، حيث يُعتبر مبدأ العدل أساس الاستقرار والتعايش في أي بلد، ومن دون العدل فإن كل بلدان العالم لن تتعايش ولن تستقر، فضلا عن أنه حق إنساني مستحق للجميع، وما أدري هل ننتظر إلى أن يُقتل نصف الشعوب حتى يُفكر النصف المتبقي بحلٍّ يوقف مسلسل الدماء والقتل لأجل القتل؟! وتحت هذا العنوان هناك العديد من القضايا الشرعية والفكرية التي تحتاج إلى نقاش، ولا تتسع المساحة لنقاشها. يأتي ما يتعلق بالدول التي يقطنها مواطنون غير مسلمين، فهل يشملهم هذا المبدأ أم لا؟ هذه المسألة تحتاج إلى مساحة لنقاشها وشرحها، ولكن باختصار، فإن المواطن حتى لو كان من غير المسلمين يجب أن تكون حقوقه متساوية أمام الدولة والوطن، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، ومثل هذه القضايا تدخل تحت مبادئ السياسة الشرعية والمصلحة العامة التي يستوجبها العصر وحق المواطنة، وعند دراسة العديد من القضايا المرتبطة بالسياسة؛ فإننا نجد أن النصوص الشرعية جاءت بعموميات وتركت الاجتهاد للأمة مفتوحا، ولهذا فإن من أوائل من مارس مثل هذه المساحة للاجتهاد وتقديم المصلحة العامة عمر -رضي الله عنه- في فرض الخراج وإيقاف سهم المؤلفة قلوبهم، وإيقاف حد السرقة سنة المجاعة وغير ذلك. هناك نقطة أخرى مهمة في هذا الباب، لا شك أن المعاهدات والمواثيق يحترمها الإسلام خاصة إذا كانت متبادلة، فإذا كانت غالبية الدول في العالم اتفقت على أنه لا يجوز التمييز ضد أي مكوّن من البشر، من خلال مواثيق الأممالمتحدة وحقوق الإنسان؛ فإننا يجب أن نبادلهم بنفس الالتزام، ولا أعتقد أن من الفقه أن يلتزم غيرنا بالمساواة والحماية من التمييز بينما نحن نبادلهم التمييز أو كحد أدنى ألا نقبل حمايتهم بقوانين مكافحة التمييز والعنصرية! ولا يأتي قائل بأنه يوجد تمييز وعنصرية ضد المسلمين هناك، فأخطاء البشر والتجاوزات موجودة في كل مكان، ولكن للحق، فإن القوانين في أغلب الدول المتقدمة تنص صراحة على حماية جميع المكوّنات ومن بينها المسلمون، وعلى أنهم جميعا في المرتبة نفسها من الحقوق، ولا شك أن هناك إشكالات كثيرة إلا أنني أتحدث عن المبادئ العامة. أختم هذا الموضوع بأن ما يُسمى بالصحوة اهتمت بالكثير من الجوانب الإيجابية، إلا أنها تُهمل الكثير من المبادئ الإنسانية كالعدل بمفهومه الشامل، العدل تجاه الآخر مثلا، وتقف جامدة أمام الكثير من مُخرجات الحضارة الإنسانية الحديثة بسبب الجمود الفقهي والفكري الذي نعاني منه، وللأسف فإن غالبية الدراسات لا تأتي بجديد، ولا تحاول أن تناقش مشاكلنا إلا بعقل جامد، ولا أدري هل سيأتي اليوم الذي نبحث فيه عن مشاكلنا بعقل عصري يفهم الواقع كما هو ويعالجه بشجاعة أم لا؟ أسامة القحطاني