الحياة دولي الجميع تقريباً يدرك الآن حال التراجع العربي. يرى مؤشراتها في كل بلد، وكل مجال، وكل مناسبة. أصبح هذا التراجع يقدم نفسه مباشرة لكل من يريد أن يرى في الحروب الأهلية، والإرهاب، والميليشيات، والسلطات المستبدة، والتدخلات الأجنبية، والدماء التي تنتشر في كل المساحة الممتدة من الخليج العربي وحتى المحيط الأطلسي في المغرب العربي. كتب كثيرون عن هذا الموضوع. ولعل الكاتب المصري المعروف فهمي هويدي من بين أكثر الذين يعبرون عن ضيقهم وحسرتهم لما وصل إليه حال العرب. آخر ما كتبه عن ذلك الإثنين الماضي في صحيفة الشروق المصرية. إذ تداخلت في مقالته* مشاعر الحسرة على مدى تراجع الحال العربية، ومسحة تشاؤم لا تخطئها عين. لكن اللافت أن المؤشرات التي يوردها عن الحال العربية لا ترقى إلى حجم الخطر كما يراه. أحد هذه المؤشرات ما يقال عن تقارب خليجي، وتحديداً سعودي، مع إسرائيل. وعلى رغم خطورة هذا الادعاء إلا أن هويدي لم يجد ما يعتمد عليه سوى خليط يجمع معلومة مبتسرة، وأخرى لا علاقة لها بالموضوع إلى رأي وتفكير بالتمني أحياناً. من أهم ما اعتمد عليه مقالة لمجلة الإيكونومست البريطانية بعنوان «The New Frenemies»، أي «الأصدقاء - الأعداء الجدد». وهي مقالة كتبت من مكتب القاهرة، لا يتجاوز حجمها (573) كلمة. وهي أقرب للرأي منها للتحقيق، وتحديداً رأي المجلة، كما يعبر عنه عنوان المقالة الإنكليزي، ومضمونها، وأنها تخلو من اسم كاتب عليها. المؤشر الآخر، والأكثر غرابة على تراجع العرب بحسب هويدي، هو أن سؤال «من هو العدو؟» بات كما يقول: «وارداً وباب الاجتهاد فيه مفتوحاً». وهو يقصد بذلك أن إسرائيل لم تعد في نظر العرب هي العدو الوحيد لهم، بل دخلت، أو أدخلت إيران على قائمة العداء. والحقيقة أن الكاتب أبدى جزعه من هذا التطور في مقالات عدة. لكنه استشهد في مقالته الأخيرة على هذا التطور بما جاء بشكل خاص في الإعلام الخليجي، وتحديداً السعودي. إذ يقول بالنص: «في تقييم الموقف الإيراني ذهب معلقو النخبة السعودية أربعة مذاهب. الأول اعتبر إن إيران هي العدو، وهو رأى تردد في الإعلام الخليجي، وتبنته بعض الكتابات المصرية. الثاني ذكر أن إيران عدو جاهل وإسرائيل عدو عاقل (أنور عشقي) الثالث اعتبر أن إسرائيل عدوة بذاتها، أي أنها ولدت عدوة للعرب في حين أن إيران عدوة بأفعالها بمعنى أن الثوة الإسلامية لم تولد معادية للعرب، ولكنها أصبحت كذلك بممارساتها اللاحقة (خالد الدخيل). الرابع قيل بأن إيران عدوة بأفعالها، ولكن العداء ينبغي أن يظل محصوراً في دائرة نظام طهران وليس عموم الشعب الإيراني المسلم والشقيق (داود الشريان في جريدة «الحياة» وجهاد الزين في «النهار» البيروتية)». يستنتج الكاتب من ذلك أن إسرائيل لم تعد العدو الأول للعرب، ولا الوحيد، بل أصبحت إيران تنافسها. ويرى مخاطر ثلاثة لذلك: أنه يسوغ الممارسات الإسرائيلية، والتطبيع، ويؤجج الصراع العربي الإيراني، ويفتح «الأبواب لصراع كارثي بين السنّة والشيعة». وجه الغرابة والتناقض في تناول الكاتب لهذه النقطة أنه ارتكب الخطيئة التي كتب مقالته للتحذير منها. إذ إنه يطالب العرب هنا بتهميش أنفسهم، وألا يكون لهم رأي بما تفعله إيران في حقهم، وعلى أراضيهم، لأن إسرائيل تحتل فلسطين. لم يحدد هويدي معياراً للعداء، يمكن الاحتكام إليه؟ ولم ينتبه إلى أن الطرف المتهم بالعداء هو المنبع الأول لهذه التهمة. معيار العداء هو أولاً الاعتداء، وثانياً الإصرار عليه وتبريره، وأخيراً تحويله إلى سياسة ممنهجة وملزمة. هل اعتدى العرب على إيران؟ هل حاولوا التدخل في شؤونها الداخلية؟ أو محاولة اللعب في تركيبتها الطائفية أو القومية، وهي تركيبة قابلة للتوظيف والتأجيج؟ الإجابة هي النفي. إيران هي التي جاءت إلى العرب، وتدخلت في شؤونهم. وكما ذكرت في المقالة التي أشار إليها هويدي «لم تأت إيران إلى العالم العربي من باب الجيرة، والانتماء الإسلامي، والتنافس، وحق الدور الإقليمي ومشروعيته. بل جاءت من أبواب... تهدم معطيات الجيرة، وتشكك في دلالة الانتماء الإسلامي، وتقدم الدم والهدم على البناء والتنافس... تدخلت إيران بالعنف والاغتيالات والقتل والطائفية والميليشيات. وليس هناك أفعال أكثر عدوانية من هذه، تهدد الدول في استقرارها، والمجتمعات في تماسك نسيجها الاجتماعي والسياسي». هل لأن إسرائيل هي العدو الأول، على العرب ألا يلقوا بالاً لآخرين يعتدون عليهم، خصوصاً إذا كان هؤلاء مسلمون؟ هل يجب أن نسلم أنفسنا، وحقوقنا وأراضينا وتاريخنا لآخرين مثل إيران فقط لتفادي تهمة أننا نساوي بينهم وإسرائيل؟ إلى أي منطق ينتمي مثل هذا التحليل؟ إذا كان هناك تساوٍ أو مماثلة بين إيران وإسرائيل فالمسؤول عن ذلك من عمل على مساواة نفسه بإسرائيل، وليس على من سجل ملاحظة التساوي هذه. إذا كانت إيران تتصرف مع العرب بشكل لا يختلف كثيراً عن إسرائيل، فإيران هي المسؤولة عن ذلك. تركيا لم تتصرف مع العرب مثل إسرائيل. ولا الحبشة كذلك. لم يصف أحد أياً من هاتين الدولتين بأنها عدو للعرب. لكن إيران هي التي كسبت هذه الصفة بنفسها، وسياساتها، واعتداءاتها. كل ذلك، وأنا لم آتِ على ذكر احتلال إيران للجزر الإماراتية منذ أيام الشاه حتى يومنا هذا. والأغرب في هذا السياق قول الكاتب بأن اعتبار إيران عدو للعرب يفتح أبواب صراع سنّي شيعي. الجمهورية الإسلامية هي من عرفت نفسها بنصوص دستورها بأنها دولةٌ شيعيةٌ اثناعشرية. وهي أول من أيقظ الطائفية في المنطقة وحولها إلى عملية سياسية، وصراع سياسي، وميليشيات طائفية. بعبارة أخرى، تفجير إيران للصراع الطائفي هو سبب اعتبارها عدو بأفعالها، وليس العكس. وكونها عدوة بأفعالها يحصر السلوك العدواني هنا بنظام الجمهورية الإسلامية السياسي. وإلا فإيران كشعب ليست عدوة للعرب. هل من المنطق أن نسمح باستغلال مأساتنا في فلسطين لتمرير اعتداءات الآخرين علينا؟ التساهل هنا خطر، لأنه يجعل من الإسلام ذريعة للعدوان يتلحف به. وهذا ما تفعله إيران. ملة العدوان واحدة، ونسيجها السياسي والتاريخي، ومبررها والآيديولوجي واحد. تبرر إسرائيل عدوانها بالتاريخ، وبآيديولوجيا التوراة. وتبرر إيران عدوانها أيضاً بالتاريخ، وبآيديولوجيا المرجعية المذهبية. علي يونسي، مستشار الرئيس حسن روحاني هو من قال إن إيران استعادت دورها، وإمبراطوريتها إذ بغداد هي عاصمة هذه الإمبراطورية التي تحارب التكفير والتطرّف الإسلامي. أما التبرير الآيديولوجي فأتى على لسان محمد علي جعفري قائد الحرس الثوري عندما قال بأن تدخلات إيران في اليمن وسورية تأتي في إطار توسيع «الهلال الشيعي» في المنطقة. دعك من اليمن. الغريب أن هويدي لا يرى عدوانية إيران في العراق وسورية. ولا يرى خطورة طائفية إيران، وهي ممأسسة بنصوص دستورية مكتوبة، وتمثل مرجعية لسياساتها الداخلية والخارجية. (أنظر «الحياة» 5 نيسان (أبريل)، 2015). والسؤال في هذه الحالة: هل أن هذا الموقف، وهو موقف اعتذاري، منبعه قناعة بإيران وادعاءاتها؟ أم أنه موقف سياسي من السعودية ودول الخليج؟ أي من هذين الخيارين حق له تماماً. لكن ما كان يليق بمن يدافع عن العروبة والإسلام أن يعبر عن هذا الحق باللغة التي استخدمها في قفلة المقال، وهي تجيب عن السؤالين السابقين. يقول فيها بالنص: «في الفراغ المخيم ما عاد للعالم العربي -الذي دخل مرحلة الأفول الكبير- له وزن أو قول، الأمر الذى أغرى بعض الصغار بأن يتطاولوا في البنيان ويحاولوا صنع المقادير. إلا أننا اقتنعنا في وقت متأخر بأن الصغار لا تصنع رقماً وأن الأقزام مهما بلغ عددهم لا يصنعون عملاقاً، ... متى يمكن أن تستعيد مصر عافيتها لكي تسترد موقعها الشاغر وتثبت حضورها ..؟ وهو سؤال محير، لأن هذا الأمل يبدو بعيداً، ومعذباً لأن أفقه يبدو مسدوداً». هذه لغة تضمر عنصرية دفينة، وتنطوي على مفهوم مصري للعروبة ليس جديداً، تشكل في المرحلة الناصرية. لم ينتبه الكاتب إلى دلالة انسداد الأفق أمام عودة مصر، من ناحية، واستمرار تطاول (البدو) في البنيان من ناحية أخرى. أيهما البدوي هنا؟ وما معنى البداوة أصلاً؟ ولماذا يعتذر كاتب عربي لسياسات إيران الطائفية وعدوانيتها تجاه العرب، وفي الوقت نفسه يتخذ موقفاً عنصرياً من شعوب عربية؟ في الإجابة على هذا السؤال شيء مما يبحث عنه هويدي حول سبب تراجع العرب. [email protected] للكاتب ---------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------- *المصير العربى فى مفترق الطرق فهمي هويدي نشر فى : الإثنين 22 يونيو 2015 - 10:15 م الشروق المصرية مجمل التطورات التى نشاهدها تطرح بقوة السؤال التالى: هل يمكن ان يصبح العالم العربى أثرا بعد عين؟.. مسوغات السؤال تطرحها المشاهد الأربعة التالية. (1) المشهد الأول: يحتار المرء ولا يعرف هل يضحك أم يبكى حين يتابع المناقشات التى جرت فى مؤتمر «هرتسليا» حول مخاوف إسرائيل من تصاعد الحملة الأوروبية الداعية إلى مقاطعتها أكاديميا واقتصاديا، فى حين يجد ان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يراهن على تعزيز تحالفه مع العالم العربى. وهى مفارقة تكتسب عمقا خاصا إذا تذكرنا ان الطرف العربى كان يوما ما يعتبر أن فلسطين قضيته المركزية وان إسرائيل عدوه الاستراتيجى الأول. لا يتسع المجال لاستعراض المناقشات التى جرت حول المخاوف الإسرائيلية من التحولات الأوروبية، فيما خص المقاطعة ومآلاتها (شمعون بيريز اعتبرها من أشكال الحرب) لكننى وجدت تعبيرا عن تطلعات نتنياهو فى التقرير الذى نشرته «الإيكونوميست» البريطانية فى عدد 13 يونيو الحالى. وقد وجدت ان أفضل ترجمة لعنوانه هل ان العرب والإسرائيليين أصبحوا «فى الهوى سوا»، كما يقول المثل المصرى الشائع. ذلك ان المجلة الرصينة رصدت مظاهر العداء بين الجانبين وانتقالهما إلى طور التفاهم والتعاون الذى تحول إلى تحالف غير معلن. فتحدثت عن المشاركة السعودية والإسرائيلية العلنية فى أحد المؤتمرات البحثية التى عقدت فى واشنطن فى الرابع من شهر يونيو (الإشارة إلى اللواء السابق أنور عشقى رئيس أحد المراكز البحثية فى جدة الذى ظهر فى الصور وهو يصافح دورى جولد أحد أبرز مستشارى رئيس الوزراء الإسرائيلى، وقد صرح الأخير بأن ذلك ليس أول لقاء بينهما ولكنه الخامس). إلا أن التقرير أشار إلى أن العلاقات السعودية الإسرائيلية لها تاريخ، ذلك ان الطائرات الإسرائيلية أسهمت فى نقل المرتزقة الذين كانوا يحاربون إلى جانب الملكيين من قواعدهم فى السعودية ضد الجيش المصرى الموجود فى اليمن فى ستينيات القرن الماضى. كما أن الأمير بندر بن سلطان كان على اتصال بالإسرائيليين فى ثمانينيات القرن الماضى أثناء عمله سفيرا لدى واشنطن. ونوهت إلى أن الأمر ليس مقصورا على السعودية، لأن النظام السورى بقيادة حافظ الأسد وابنه بشار حافظا على سلام ايجابى مع إسرائىل ولم يطلقا رصاصة واحدة على إسرائيل منذ أربعين عاما، فى حين قام الجيش السورى بتدمير مخيم اليرموك الذى يقطنه الفلسطينيون فى دمشق. كما ان الرئيس عبدالفتاح السيسى ذكر فى حوار صحفى أنه تحدث كثيرا مع نتنياهو أثناء الاجتياح الإسرائيلى لغزة عام 2014 وكان له موقفه الحازم فى مواجهة حركة حماس. ونقل التقرير على لسان رجل المخابرات الإسرائيلية السابق يوسى الفر ان الجميع فى العالم العربى اقبلوا على شراء طائرة درون الإسرائيلية بغير طيار. من المعلومات المهمة التى ذكرها التقرير أيضا ان نتنياهو يراهن على تعويض المقاطعة الأوروبية بصداقاته المتنامية من العرب. واستشهد فى ذلك بنتائج استطلاع للرأى أجرته أخيرا إحدى المنظمات الإسرائيلية حول اتجاهات الرأى العام فى السعودية، وتبين منه ان 18٪ من العينة تعتبر إسرائيل عدوا، و22٪ قالوا ان داعش هى العدو، فى حين ان 53٪ قرروا ان العدو هو إيران. ورغم الحذر الواجب فى التعامل مع تلك النتائج والجهة التى أجرت الاستطلاع وتوقيته من حيث تزامنه مع بروز الدور الإيرانى فى اليمن، فإن دلالاتها لا يمكن تجاهلها. (2) المشهد الثانى: فى أجواء الالتباس أصبح السؤال من «هو العدو» واردا وباب الاجتهاد فيه مفتوحا. لن تستطيع ان تأخذ على محمل الجد الشطحات التى ترددت فى الفضاء الإعلامى المصرى مشيرة إلى ان العدو هو الإخوان تارة وحركة حماس تارة أخرى، لأنها كانت تعبيرا عن الغلو فى الشيطنة المتأثرة بالصراع السياسى الحاصل فى مصر، إلا أن ما أثاره الإعلام الخليجى والسعودى منه بوجه خاص جدير بالملاحظة. ذلك ان المخاوف التقليدية من الطموحات الإيرانية، تضاعفت بعد الظهور الإيرانى فى الساحة اليمنية، ومع احتمالات الاتفاق حول البرنامج النووى الإيرانى بين طهرانوواشنطن. إزاء ذلك برزت إيران فى صدارة المشهد وتراجع بشكل ملحوظ العامل الإسرائيلى، حتى إن الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودى السابق استخدم فى بعض البيانات الصادرة عنه مصطلح الصراع الفلسطينى الإسرائيلى (وليس العربى). فى تقييم الموقف الإيرانى ذهب معلقو النخبة السعودية أربعة مذاهب. الأول اعتبر ان إيران هى العدو وهو رأى تردد فى الإعلام الخليجى وتبنته بعض الكتابات المصرية. الثانى ذكر ان إيران عدو جاهل وإسرائيل عدو عاقل (أنور عشقى) الثالث اعتبر ان إسرائيل عدو بذاتها، أى أنها ولدت عدوة للعرب فى حين أن إيران عدوة بأفعالها بمعنى أن الثوة الإسلامية لم تولد معادية للعرب ولكنها أصبحت كذلك بممارساتها اللاحقة (خالد الدخيل). الرابع قيل بأن إيران عدوة بأفعالها، ولكن العداء ينبغى أن يظل محصورا فى دائرة نظام طهران وليس عموم الشعب الإيرانى المسلم والشقيق (داود الشريان فى جريدة الحياة وجهاد الزين فى النهار البيروتية). ما يستخلصه المرء من هذا العرض ان إسرائيل لم تعد العدو الأول ولا بقيت العدو الأوحد. ولكن إيران أصبحت منافسا لها. وخطورة هذه الخلاصة تكمن فى انها تسوغ غض الطرف عن الجهد الحثيث الذى تبذله إسرائيل لابتلاع كل فلسطين وسحق الفلسطينيين. وتوسيع دائرة التطبيع مع العرب. والأخطر من ذلك أنها لا تكتفى بتأجيج الصراع بين العرب والإيرانيين، ولكنها تفتح الأبواب لصراع كارثى بين السنة والشيعة لا حدود لها يهدر طاقات الطرفين ويهزمهما معا. (3) المشهد الثالث: كما أصبح مصطلح العدو الإسرائيلى والقضية المركزية من عناوين الماضى المعرضة للاندثار، فإن المصير ذاته بات يلاحق مصطلح الأمة الواحدة. بل ان الشواهد التى بين أيدينا تدل على أننا أصبحنا نحاول جاهدين الإمساك بتلابيب مصطلح الوطن الواحد. فالتحليلات المنشورة تتعامل مع تقسيم العراق باعتباره واقعا فرض نفسه، وبعضها يتحدث عما بقى من سوريا، فى حين ان التمزق جار على قدم وساق فى اليمن وليبيا، وهو حاصل فى لبنان الذى فشل فى انتخاب رئيسه بسبب التجاذب بين الفرقاء. وكان السودان سباقا إلى التمزق بعد انفصال الجنوب واستمرار حركات التمرد فى دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، ونسأل الله ان تنجو الجزائر من التمزق بعد رحيل رئيسها المريض عبدالعزيز بوتفليقة. لكن ذلك كله فى كفة وفرقعة كردستان الكبرى فى كفة أخرى. وقد أطلق الفرقعة اللواء السعودى السابق أنور عشقى الذى سبقت إلى الإشارة إلى أنه يدير أحد المراكز البحثية فى جدة، إذ ذكرنى مؤتمر واشنطن الذى عقد لمناقشة «التحديات الإقليمية» ما يلى: يجب ان نعمل على ايجاد كردستان الكبرى بالطرق السلمية، لأن من شأن ذلك ان يخفف من المطامع التركية والإيرانيةوالعراقية. إذ ستقتطع دولة كردستان الكبرى ثلث إيران وثلث تركيا وثلث العراق، على الأقل فذلك نص ما ورد فى مقالة نشرتها جريدة «الشروق» فى 12/6 الحالى، وكتبها زميلنا محمد المنشاوى الخبير بالشئون الأمريكية ومراسل الجريدة فى واشنطن الذى حضر مناقشة الموضوع. لا أستبعد ان يكون السيد عشقى قد عبر بما طرحه عن رأيه الشخصى واجتهاده الخاص، لكننا نفهم أن أفكارا بتلك الخطورة حين تطرح فى السعودية لا تكون بعيدة عن موقف السلطة وتوجهاتها. أضف إلى ذلك أن فكرة الدولة الكردية ليست مبتدعة ولا مستحدثة. فهى مضمرة ومعلنة فى الخطاب الكردى منذ عدة سنوات. وقد نقل زميلنا الأستاذ الشناوى عن رئيس ديوان السيد مسعود البرزانى رئيس إقليم كردستان العراق قوله ان الأخير بحث موضوع الدولة الكردية مع الرئيس أوباما أثناء زيارته لواشنطن. وأضاف أن أعضاء مجلس الكونجرس يرحبون بالفكرة ويحبذونها، أما إسرائيل فهى تشجعها بكل ما تملك من نفوذ وقوة، خصوصا ان لها علاقات قديمة مع الأكراد، ولها نشاطها المكثف فى أربيل الذى كان سريا واستخباراتيا قبل احتلال العراق عام 2003، وأصبح مشروعا وشبه علنى بعد الاحتلال وحتى الوقت الراهن. فكرة كردستان الكبرى. وان بدت خيالية فى الوقت الراهن، إلا ان الظروف باتت مواتية لطرحها بعد الانفصال الواقعى فى العراق، وبروز دورهم فى سوريا، والانتصار الذى حققوه فى الانتخابات التركية الأخيرة، حيث فرضوا أنفسهم على البرلمان لأول مرة فى تاريخهم واحتلوا 13٪ من مقاعده. لكن الأهم من ذلك، وما يعنينا فى الموضوع، ان فتح ذلك الملف من شأنه ان يحدث انقلابا فى خرائط المنطقة، الأمر الذى من شأنه ان يفجر حربا شرسة يمكن ان تستمر مائة عام، لأن انتزاع الأراضى التى يعيش عليها الأكراد فى تركياوإيرانوسورياوالعراق ليست بالأمر الهين. لكنه يظل ضمن المستحيلات التى باتت واردة فى أجواء الانفراط والتحلل المخيمة على العالم العربى. (4) المشهد الرابع: فى حين ينفرط عقد العالم العربى وتتفتت دوله وتتآكل خرائطه تظل للزعماء العرب «قمة» تنعقد بانتظام، وللأمة «جامعة» يفترض ان تكون واجهة لها، دون ان يكون للقمة والجامعة صلة بما يجرى على الأرض، كأنه يحدث فى قارات وكواكب أخرى، الأمر الذى حول هذه الكيانات إلى أشباح لماضٍ تجاوزته الأحداث وعفا عليه الزمن. ومن خلال اختبارات عدة اكتشفنا ان العناوين التى ملأت الفضاء العربى يوما ما عن الأمة الواحدة والمصير المشترك والقضية المركزية كانت مجرد صياغات لغوية عبرت عن طموحات لبعض الحالمين من ذوى النوايا الطيبة، وتعثرت طول الوقت محاولات تنزيلها على أرض الواقع. وأدركنا ان العالم العربى أصبح عوالم متعددة، وصار جسما بلا رأس، حتى ما بدا كأنه عمل مشترك، فإنه ظل قناعا يخفى فى طياته حسابات ضيقة وخاصة. وكانت فرقعة القوة العربية المشتركة التى هلل الإعلام لها قبل عدة أسابيع، بابا لتصفية حسابات الأطراف (مصر فى ليبيا والسعودية فى اليمن) ولم يكن فيها شىء مشترك، وصارت الفكرة نموذجا للمفارقات الفادحة فى العالم العربى، الذى سعت بمقتضاها بعض الدول إلى حماية نظمها من جيرانها أو شعوبها، فى حين تركت للدول الغربية الكبرى مهمة حمايتها ضد خصومها. فى الفراغ المخيم ما عاد للعالم العربى الذى دخل مرحلة الأفول الكبير له وزن أو قول، الأمر الذى أغرى بعض الصغار بأن يتطاولوا فى البنيان ويحاولوا صنع المقادير. إلا أننا اقتنعنا فى وقت متأخر بأن الاصغار لا تصنع رقما وان الأقزام مهما بلغ عددهم لا يصنعون عملاقا، ومن رحم الأزمة وعمق المعاناة كان الدرس الذى استوعبه الجميع هو ان مصر هى المشكلة وهى الحل. وغدا السؤال المحير والمعذب هو: متى يمكن ان تستعيد مصر عافيتها لكى تسترد موقعها الشاغر وتثبت حضورها بعد طول غياب؟. وهو محير لأن هذا الأمل يبدو بعيدا، ومعذبا لأن أفقه يبدو مسدودا.