مكة أون لاين - السعودية ابن تيمية يشكل ظاهرة في الوسط الديني في عالمنا العربي؛ فهو سلطة مرجعية لدى التيارات السلفية؛ إذ إن اجتهاداته تمثل القول الفصل في كثير من القضايا الدينية لديها، وهو يمثل رمز الشر لدى طوائف أخرى خاصة طائفة الشيعة الإمامية؛ إذ إن له كتابا بعنوان (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية) رد به على كتاب (منهاج الكرامة في معرفة الإمامة) للحلي الإمامي. وكان نقده تفكيكيا لمقولات الإمامية، مع القسوة في الأسلوب في بعض الأحيان، وقد ظل اسمه محصورا في دوائر الطرح الديني؛ بحثا، وإفتاء، وجدلا، لكن ظاهرة العنف الديني اليوم جعلت اسمه مطروحا في أوساط عامة المثقفين والإعلاميين بعد أن أصبحت مقولاته وتنظيراته تشكل مرجعية لخطاب العنف. وآخر ما تم تداوله في هذا المجال استشهاد داعش برأيه في حرق الطيار الأردني، وهنا يرد تساؤلان؛ هل انفرد ابن تيمية بالتنظيرات التي يستدل بها تيار العنف؟، وهل ابن تيمية بالصورة السيئة التي تبدو للجمهور من غير المتخصصين نتيجة استشهاد مؤيديه من أهل العنف به، وكلام خصومه عنه؟. أما بالنسبة للسؤال الأول فأجزم أن ابن تيمية لا يكاد ينفرد عن بقية العلماء السابقين له إلا بتنظيراته في التعليل العقلي للمقولات الكلامية في مجال الإلهيات، وهي مقولات منسوبة لما اصطلح على تسميته بعصر السلف، وأما ما عدا ذلك من الآراء الفقهية والعقدية فهي آراء مطروقة لم يتفرد بها، ولم يكن له فيها من إضافة إلا الاختيار وتعزيز الأدلة، وعليه فما يستدل به تيار العنف من آراء منسوبة إليه هي آراء من اختياراته وليست من مفرداته. والإشكال ليس في ابن تيمية ولا في العلماء السابقين عليه؛ إذ إن أولئك العلماء هم أبناء واقعهم، ومقولاتهم وتنظيراتهم كانت استجابة للواقع الذي عاشوا فيه، بل الإشكال في طريقة إنتاج الخطاب الديني لدى كل الطوائف الإسلامية اليوم؛ إذ هي طريقة قائمة على إعادة إنتاج مقولات علماء العصور الماضية وقطعها عن سياقها التاريخي الذي نزلت عليه، وتطبيقها على واقع مغاير تماما لعصر أولئك العلماء. وعليه فالنقد يجب أن يوجه للمنهج الديني اليوم في تعامله مع النص الديني والواقع، فالإشكال منهجي ناتج عن جمود لدى العقلية الدينية المعاصرة؛ إذ اكتفت باستيراد مقولات وتنظيرات علماء العصور الماضية مع التغير الجذري لواقعنا عن واقع تلك العصور، وأما تحميل عالمٍ ما وزر آثام الحاضر فهو فهم ساذج ينم عن جهل عميق بالتراث، وجهل بمنهجية الاستنباط في الخطاب الديني لكل الطوائف الإسلامية اليوم. وأما السؤال الثاني فإن المتعمق في قراءة إنتاج ابن تيمية يكتشف أنه قد جنى عليه مؤيدوه من أصحاب العنف بالاستدلال ببعض مقولاته لتسويق عنفهم، وبعض السلفيين الذين يحتجون بمقولاته الحادة تجاه مخالفيه التي قالها في سياق الجدل مع مخالفيه، وجنى عليه - أيضا - خصومه من بعض الطوائف التي انتقدها ابن تيمية؛ إذ إنه نتيجة لخطاب هذين الفريقين استقر لدى جمهرة واسعة أن ابن تيمية صاحب خطاب تكفيري عنيف، رافض لكل مخالف له، لكن القارئ المتعمق لتراث ابن تيمية يجد أن لديه خطابين؛ الخطاب الأول: خطاب حاد يستخدمه في معرض ردوده وجداله مع مجادليه من الطوائف الأخرى؛ فهو يحشد كل الأدلة والتعليلات، ويسوقها لقطع حجة خصمه، ويحتد في نقاشه ويقسو، ويكون أسلوبه قاطعا ومعمما مما يجعل القارئ يفهم منه المفاصلة التامة والقطيعة الجذرية مع المخالف، وكثير من سلفيي هذا العصر متأثر بهذا الخطاب. والخطاب الثاني: خطاب هادئ متسامح؛ ويستعمله حينما ينظِّر لقضية دينية ابتداء وليس لمجادلة خصم ما، وثمة نصوص له تعبر عن هذا الخطاب لو قالها اليوم عالم سلفي لواجه استنكارا عارما من السلفيين، فهو مثلا قال عن طوائف الأمة: "لا يحل لأحد من هذه الطوائف أن تكفر الأخرى، ولا تستحل دمها ومالها وإن كانت بدعة محققة"، وقال ما يدل أن الكفر شرطه الاعتقاد القلبي "لو قدر أنه سجد قدام وثن ولم يقصد بقلبه السجود له بل قصد السجود لله بقلبه لم يكن ذلك كفرا، وقد يباح ذلك إذا كان بين مشركين يخافهم على نفسه..، كما ذكر أن بعض علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب فعل نحو ذلك مع قوم من المشركين حتى دعاهم إلى الإسلام فأسلموا على يديه. ولم يظهر منافرتهم في أول الأمر"، ورأى أن الشيعي الإمامي إذا دعا النصراني أو اليهودي إلى الإسلام فأسلم وأصبح شيعيا إماميا فهو خير؛ قال: "وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك، وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفارا"، وقال عن من خالف العقيدة السلفية: "وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكا، فإن المنازع قد يكون مجتهدا مخطئا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته".