الشرق الأوسط اللندنية في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي أظهرت استطلاعات الرأي أن 15 في المائة فقط من الفرنسيين يرغبون في خوض الرئيس هولاند الانتخابات الرئاسية المقررة في 2017. وهذا أدنى مستوى تأييد يحصل عليه رئيس فرنسي منذ الحرب العالمية الثانية. لكن الحال تبدل كليا هذا الأسبوع، بعدما نجح هولاند في تنظيم أوسع اصطفاف شعبي وراء الحكومة منذ الثورة الطلابية في 1968. الأمر المؤكد أن الحكومة الفرنسية ما كانت تتمنى هجوما دمويا كالذي شهدته باريس وحصد 20 قتيلا. مثل هذا الهجوم سيثير ارتياب الجمهور في كفاءة الحكومة وقدرتها على صون الأمن العام، لا سيما في ظروف العالم الراهنة. لكن حكومة هولاند أظهرت براعة في التقاط كرة النار ثم رميها مرة أخرى في الاتجاه الذي أرادت أن يسرق أنظار الناس، ليس في فرنسا وحسب، بل في أوروبا والعالم أجمع. وهكذا تحولت باريس يوم الأحد الماضي إلى مهوى لقلوب الفرنسيين، بل عاصمة للعالم حين تقدم الرئيس هولاند مسيرة شعبية، يحيط به زعماء من 50 دولة، ويتبعهم نحو مليوني متظاهر. لا أحسد الفرنسيين على ما حل بهم، بل أغبطهم على هذه القدرة الفائقة على تحويل الهزائم الصغيرة إلى انتصارات كبيرة. في الأحوال الاعتيادية يؤدي مثل ذلك الهجوم الإرهابي إلى إثارة الفزع بين الناس في المرحلة الأولى، ثم اتهام الحكومة بالتقصير والفشل، ثم انبعاث نزعة التلاوم والبحث عن كبش فداء، ثم انفلات غريزة الانتقام من الشريحة التي ينتمي إليها القتلة، وهم في هذه الحالة المسلمون والفرنسيون من أصول عربية وأفريقية وربما بقية الأجانب. مثل هذا السيناريو الذي تكرر فعليا في بلدان أخرى، كان سيؤدي على الأرجح إلى مضاعفة عدد الضحايا وتعميق التفارق والانقسام في المجتمع الفرنسي، أي تدشين ظرف اجتماعي - سياسي متأزم يصعب التنبؤ بنهاياته. بدل الانفعال بالحادثة، قرر الرئيس الفرنسي تحويلها إلى مناسبة لإحياء الإجماع الوطني وتعزيز دور فرنسا القيادي في العالم. منذ لحظة الهجوم تحول الرئيس ووزراؤه إلى مبشرين بقيم الجمهورية، لا سيما قيمة الحرية والمساواة والتنوع الثقافي والسياسي، مع التشديد على كونها أبرز أركان وحدة المجتمع والهوية الوطنية الجامعة. ولفت نظري خصوصا منع اليمين المتطرف من تنظيم مظاهرة معادية للمهاجرين، فضلا عن منع زعيمه جان ماري لوبان من المشاركة في مظاهرة باريس الكبرى، خشية تحويل جانب منها نحو شعارات العداء للمسلمين والأجانب. الهجوم على مجلة «شارلي إيبدو» كان من نوع الصدمات التي تهز توازن المجتمع وتطلق تيارا لا ينتهي من النزاعات الداخلية. لكن وجود قيادة بعيدة النظر حول هذه الصدمة إلى مبرر لاستنهاض روح الجماعة. روح الجماعة هي الوطن الحقيقي. وإذا انبعثت فإنها توفر قوة هائلة، يمكن استعمالها في النهوض بالوطن أو في احتواء ما يواجه من تحديات.