التقرير - السعودية من 10 يونيو 2014 حيث سيطرت «الدولة الإسلامية في العراق والشام- داعش» على الموصل، وداعش هي الخبر الأوّل والأهم في محطّات الأنباء. وفي 22 يونيو حيث سيطرت أيضًا على مدينة الرطبة، القريبة من الحدود الأردنية والسعودية، أصبح نقاش وتحليل وفهم تنظيم داعش هو الموضوع الأكثر طرحًا على الساحة. وكذلك أيضًا بعدما أُعلِن من قبل مجلس الأمن الوطني السعودي برئاسة الملك عبد الله في 26 يونيو باتخاذ «الإجراءات اللازمة لحماية مكتسبات الوطن وأراضيه»، حيث بدا للجميع مدى جدّية الأمر -فهذا المجلس لا تُعقد جلساته إلا في أوقات طارئة قليلة ولهجة البيان قريبة جداً من المادة 61 من النظام الأساسي للحكم والتي تنص على أن الملك هو «من يعلن حالة الطوارئ، والتعبئة العامة، والحرب». أصبح السؤال المُلح في مثل هذا الظرف الحرج: «من هؤلاء وما الذي يجب علينا فعله تجاههم؟ ولماذا ذهب بعض أبنائنا إليهم؟»، «نحن» كدولة ينتظر من صنّاع القرار فيها قولًا حاسمًا، و«نحن» كمجتمع وإعلاميين ومثقفين وشخصيات عامّة يجب أن نقدّم دورًا وطنيًا وقراءة ووعيًا بالأحداث. عدة فرضيّات لتحليل وفهم دوافع داعش طُرِحَت في الوسائل الإعلامية المختلفة طوال الفترة الماضية، ومن قبل دخولها للموصل. أُريد هنا مناقشة فرضيّتين من هذه الفرضيّات: 1- داعش مرتزقة مشتركين في مؤامرة وراءها النظام السوري والإيراني. في الحقيقة، فرضيّة أن «داعش» تخدم النظام السوري هي فرضيّة واقعيّة جدًا، فقط من حيث إنها تُتيح للنظام السوري أن يقول: «انظروا ما البديل؟». وهذا الجانب هو ما يركّز عليه من يتبنّى هذه الفرضيّة. (مثلاً: مقال: من صنع داعش؟، إبراهيم معتوق عساس، صحيفة المدينة 29/6/2014. ومقال: من صنع داعش؟، د. عبد الله القفاري، صحيفة الوطن 28/10/2013). يُعفي نفسه هذا الطّرح من تقديم أي أدلة أو مادة حقيقيّة تثبت هذا التواطؤ المزعوم. والطريقة التي اتّخذتها داعش في قتل قادة الصحوات العراقية وأفراد النظام العراقي الذين تمكّنوا منهم، والتهديدات التي أطلقتها والدُّول التي تخطّط للاستيلاء على أراضيها، تتعارض تمامًا مع أي مصالح إيرانية أو سورية في المنطقة مهما كانت الصورة التي تتركها داعش خادمة لهم. جدير بالذكر أن هذا الطّرح كان يُدخل المخابرات العراقية في مؤامرة «صناعة داعش»، باعتبار أن نظام نوري المالكي هو عنصر ثالث مستفيد من وجود داعش بالإضافة إلى إيرانوسوريا، لكن التطورات الأخيرة لتنظيم داعش تجعل من هذه الفكرة سخيفة جدًّا؛ فلا أحد يمكنه أن يصف ما يحصل باعتباره خادمًا للنظام العراقي. 2- «داعش» مشكلة فكريّة مرتبطة بالمنهج الوهابي. مؤخّرًا، نشر أحد أفراد تنظيم «داعش» على تويتر صورة كتاب «التوحيد» لمحمد بن عبد الوهاب مطبوعًا على نفقة التنظيم وعليه شعارها بحيث يُدرّس هذا الكتاب. أمرٌ آخر جعل الرّبط بين «داعش» الآن و«محمد بن عبد الوهاب» سابقًا، هو تشابه السرديّة التي تقول: «أتى ليخلّص المجتمعات من الشرك والجهل والانحراف عن دين الله وتوحيد المسلمين ورفع راية الإسلام». تحمل هذه الفرضيّة بُعدًا يبدو حقيقيًّا من حيث التشابه في الأصول والمرجعية المشتركة وخطاب البدايات رغم التجليّات المختلفة. لكنّ المشكلة حين يتحوّل هذا الرّبط إلى «تفسير لوجود داعش». التركيز على الجانب الفكري المكوِّن لداعش هو تفسير للحلقة الأضعف في حقيقة وجودها الآن. رؤية ما يحصُل الآن من قِبَل داعش بوصفه «انحرافًا فكريًّا» يعني تجاهُل كل الاعتبارات الأخرى. والنظرة إلى الحركات الجهادية بوصفها «أفكارًا» ممتدّة من فتاوى ابن تيمية ورسائل وكتب محمد بن عبد الوهاب هو عين اللاواقعية في التحليل وتجاهل كل تعقيدات الحاضر. البُعد الفكري له أهميّة واعتبار، لكنّه وحده لا يُنتِج حركة وتنظيم مثل داعش. تذكّرنا عمليّة الاختزال هذه بما حدث بعد 11 سبتمبر 2001 في ساحة الجدل السعودي وقتها «الصحف والمنتديات الإلكترونية»، حيث تمّ توجيه أصابع الاتّهام مباشرةً للوهابيّة. والفارق الآن: أن داعش وخطورتها أمرٌ أكثر جديّة بكثير من محاولة البحث عن أيّ وسيلة لتوظيفه في صراع تيارات داخليّة. توظيف «داعش» أو غيرها في صراع واختلاف التيارات أمر طبيعيّ جدًّا، كلّ حدث في العالم من الطبيعي أن يتم استحضاره أثناء الحديث عن مشكلة فكرية مرتبطة به. لكن المشكلة هي في محاولة إيجاد أي وسيلة لضرب تيار معيّن مهما كانت هذه الوسيلة تختزل عوامل معقّدة عدّة في بُعد واحد. تمتدّ هذه الفرضيّة إلى إلقاء اللوم على كتُب التراث واستحضارها. وهنا يمكن لنا أن نقف على مثالين: 1- نجد مثلًا الكاتب محمود جمال، يكتب في 23 يونيو في «دوت مصر» مقالًا بعنوان: «رحلة البحث عن داعش» يقول فيه: «يبدأ الطريق إلى داعش من المكتبة». واصفًا كتُب التراث الإسلامي والنظرة التقديسيّة لها بأنها تدفع إلى استقلال الطائرة إلى العراق أو سوريا «أملًا في حصد أكبر عدد من الأرواح، بمساعدة رفاقك في داعش». مستندًا على بعض روايات البخاري وسيرة ابن هشام وغيرها من المصادر. 2- والمثال الآخر: الأستاذ فهد الشقيران في مقاله في 29 يونيو في الشرق الأوسط «داعش.. حشاشون بلا قلاع»، فبالنسبة له «صيغ الدم والاحتلال والمباغتة والقتل، وثقافة الدماء والأشلاء» هي «امتداد فكري للتنظيمات "الانشقاقية" التي تركز على مبادئ الانفصال والتحرك بالفراغات والافتيات على الأزمات»، وأن "الأصولية الإسلامية" «تجمعها خطوط كبرى على مستوى الأيديولوجيا والدوغمائية في التفكير والمبادرة الدموية في التنفيذ؛ لهذا أصبح استحضار حالة "الحشاشين" معتادًا في الدراسات التي تتعلق بالإرهاب والخلايا القتالية العنيفة». ثم يختم مقاله بأنّ «تعقيدات الحدث السوري والتخلي الغربي عن المنطقة» له أكبر الأثر في إعادة إنتاج أتباع هذه الحركات «الأصولية». وإن قلعة «آلموت» للحشاشين وساحة الموصل الآن لداعش تستند على «بنية أصولية دموية» واحدة، وأنّه من العبث أن نتحدّث عنها بوصفها «إرهابًا طارئًا» أو «ثقافةً دخيلةً»؛ فهي موجودة من قبل. بلا شكّ أنّ تفسير وجود داعش، ومن قبله تنظيم القاعدة، يحتاج للكثير من البحث والحذر، وأول خطوة منهجية في أي محاولة تفسير لظاهرة اجتماعية؛ النظر إلى كلّ أبعادها. وتنظيم مثل داعش، يشكّل البُعد التُراثي أو الفكري فيه بُعدًا واحدًا فقط من أبعاد متعدّدة قابلة للبحث والتفكير. من هذه الأبعاد المرتبطة بفهم داعش أو الحركات الجهادية بشكل عام: مشكلة استقلال الدولة العربية وتبعيّتها للغرب والنفوذ الغربي فيها؛ الاستبداد وعُنف الدولة وعلاقته بالتحوُّل من الحراك السلمي إلى العنف المسلّح؛ دور الدول العربية في القضايا ذات البُعد القومي مثل: فلسطين سابقًا والآن وسوريا؛ الاندماج الاجتماعي في الدولة العربية؛ الإسلاميون وأفكارهم وتأثيرهم في المجتمع وموقف الأنظمة العربية منهم... وغيرها من الجوانب التي لا أتجرّأ أن أدّعي حصرها أو أتحدّث بلغة وثوقية يقينيّة من أثرها، فضلًا عن تجاهلها واختزالها في المكوِّن الفكري التراثي.