التقرير - السعودية نحن أمة حتّى بعض قضاتها لا يقرؤون قوانين (أنظمة) صدرت من الحاكم بصفته السلطة التشريعية (التنظيمية)، وهم مسؤولون عن تطبيقها -إن وجدت-، فكيف بغيرهم؛ بل الأدهى من ذلك وأمرّ أن يصبح بعض القضاة وبعض المحامين يأخذون جزءًا من العلم القانوني من المجتمع، فما كان مفهوم المجتمع لذلك فيجب أن يكون صحيحًا. وهنا، نحن لا نتحدث عن العُرف الذي يعدّ من مصادر القانون، وإنما عن مفاهيم صنعتها المكينة الإعلامية الرسمية لعقود مضت ثمّ تحولت هذه المكينة في العقد الأخير لتشويه هذه الجهة، وكلّها لأهداف سياسية خالصة لا تمتّ لمصلحة الأمّة بشيء. وهذا المقال هو من وحي نقاش تمّ في أروقة المحاكم في قضية لأحد المصلحين، حيث لم يقتنع القاضي -ناظر القضية- بأن هيئة كبار العلماء هيئة استشارية، ويَعتقد أنّ هذا رأي لي بينما هو رأي مَن سنّ القوانين وليس رأيًا شخصيًّا. هذا المقال مجرد وصف لواقع الهيئة القانوني واختصاصاتها كما أراد لها الملك فيصل عندما أصدر الأمر الملكي رقم أ/137 بتاريخ 8 رجب 1391 للهجرة (1971 للميلاد)، بعد سنتين فقط من وفاة محمد بن إبراهيم الذي كان قد قام بإعلان خلع الملك سعود من الحكم. فماذا نصّ عليه هذا النظام؟ وما هي اختصاصات الهيئة بناءً عليه وعلى لائحة الهيئة؟ تنصّ المادة الثالثة من نظام الهيئة على اختصاصاتها، وهي كما يلي: "إبداء الرأي فيما يحال إليها من وليّ الأمر من أجل بحثه وتكوين الرأي المستنِد إلى الأدلة الشرعية فيه"، و"التوصية في القضايا الدينية المتعلقة بتقرير أحكام عامّة ليسترشد بها ولي الأمر". إذًا، الهيئة مختصّة بأمرين: إبداء الرأي بناءً على طلب الحاكم، والأمر الآخر توصيات في الأمور الدينية المتعلقة بتقرير أحكام عامّة. لا يوجد شيء يقول إن تفسيرهم للشريعة ملزمٌ للحاكم، وبلا شكّ أن الفتاوى للناس ليست ملزمة؛ فالفتوى -كما هو مقرر لدى الفقهاء- ليست ملزمة، بخلاف القضاء فهو ملزم. إذًا، الهيئة لا تقوم بدور محكمة دستورية؛ أي لا تقرّر بأن قانونًا ما أو مادة ما مخالفة للشريعة، وبناءً عليه تعتبر غير دستورية، وليس لها اختصاص تشريعيّ بناءً على نظامها؛ أي ليس لها إصدار تشريع، وإنما التشريع وإصدار القوانين (الاختصاص الأخير فيه للملك بمشاركة مجلس الوزراء ومشاركة شكلية لمجلس الشورى). وهذا الأمر هو عكس ما تقوله المكينة الإعلامية التاريخية. ربما اللائحة تنصّ على خلاف ذلك، وهذا أمر غير مقبول قانونيًّا إن وُجد بشكل عام، لكن هذه اللائحة صدرت بأمر ملكيّ ممّا يخولها أن تكون موازية للنظام من حيث آلية الصدور، وقد صدرت مُرفقة للنظام في اليوم نفسه. نصّت الفقرةُ السادسةُ من النظام: "يقوم الأمين العام للهيئة بإعداد جدول أعمال دورات الانعقاد ولا يجوز مناقشة موضوع لم يتضمنه الجدول، وذلك حرصًا على أن تتوفّر للهيئة فرصة الدراسة والمراجعة". حتى جلسات الهيئة والمواضيع التي يبحثونها والتي ستكون فيها آراؤهم اختياريّة للحكومة كلّها مقيدة بما نصّ عليه نظام سير العمل في تلك الهيئة ولائحته؛ فجدول أعمالهم إنما يضعه أمين عام الهيئة وحده، بينما رئيس الهيئة والأعضاء لا رأي لهم، ممّا يؤكد اتجاه الإرادة الحكومية لتكوين مجموعة من العلماء تابعين للسلطة بشكل مباشر ويخضعون للنظام الحكومي. وقد قامت الحكومة بعزلِ عددٍ من العلماء أعضاء هيئة كبار العلماء منهم: عبد الله بن قعود، وعبد الله بن جبرين، وحديثًا وسعد الشثري؛ لكونهم جهروا بآراء لا تُناسب الحكومة، وتمّ تجريد أحدهم من لقب "شيخ" إلى "مدعو". لعلّ هذا الأمر قديم، وقد تغيّر بعد صدور النظام الأساسي للحكم في عام 1412 للهجرة، وخصوصًا مع نصّ المادة السابعة لهذا النظام الأساسي بأن الكتاب والسنة هما الحاكمان على هذا النظام وعلى غيره من الأنظمة. المادة 45 من النظام هي المادة الوحيدة التي ذكرت هيئة كبار العلماء، ونصّها التالي: "مصدر الإفتاء في المملكة العربية السعودية كتاب الله تعالى وسنة رسوله، ويبيّن النظام ترتيب هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء واختصاصاتها". إذ لم يوجد أي تغيير إطلاقًا على اختصاصات هذه الهيئة الحكومية، وهي اختصاصات استشارية يُستأنس بها، بل نصّت المادة 44 من النظام الأساسي للحكم بأنّ السلطات ثلاث، وذكرت بأنّ المرجع لهذه السلطات التنفيذية والقضائية والتنظيمية للملك، ولم تذكر بأنّ لهيئة كبار العلماء أيّة سلطة. وقد ذكرَ عددٌ من الباحثين أنّه في التاريخ الإسلامي لم توجد مثل هذه الهيئات تابعة للمؤسسات الحاكمة في تلك العصور، وإنما كانت مؤسسات موجودة كمجموعاتٍ علمية أو أفرادٍ، وكانوا أقرب للناس ويمثّلون الناس عندما توجد إشكاليّات حقيقة مع السلطة الحاكمة. وحتى مؤسسة القضاء تاريخيًّا، كانت مستقلّة عن السلطة الحاكمة بشكل أو بآخر، وكان العلماء أنفسهم يعرفون مَن العالم فيهم، وليس السلطة السياسية هي التي تحدّد مَن هو العالم الذي يستحق أن يكون في هيئة كبار العلماء ومَن هو العالم الذي يحذف منه هذا الللقب ويستحق أن يكون في السجن السياسي لمخالفته للرأي "الشرعي" للسلطة السياسية. يجب أن لا يُفهم من هذه الحديث أنه نقدٌ لأعضاء هيئة كبار العلماء. ليس لأنهم فوق النقد؛ فالبشر جميعًا تحت النقد عدا المعصوم، وإنما ليس نقد الأشخاص من اختصاصي، وإنّما المؤسسات وتشكليها وبناؤها الدستوري. ومن الحلول المطروحة في هذا الشأن لاستقلالية العلماء لمصلحة الأمة هو ما ذكرت في مقال سابق في موضوع الملكية الممكنة؛ وذلك بتشكيل جمعيّة للعلماء منهم أنفسهم، ويكون لها وقف يضمن استقلالهم عن السلطة السياسية، فلا يخضعون لسلطتها وأمرها.