الحياة - السعودية يمكن رؤية الخضوع للمفاهيم الأوروبية السياسية الحديثة، واعتبارها قيماً بحد ذاتها، وقراءةُ التاريخ على ضوئها بطرق مختلفة، نوع من الخضوع لحال هيمنة وتسلط القوي سياسياً على الضعيف، وتعبيرٌ عن حال خضوع الغالب للمغلوب، التي تحدّثت في مقالات سابقة عن تجلياتها في الثقافة، والعلم من خلال الإعجاز العلمي للقرآن. لا أطرح في هذا السياق مسألة رفض أو القبول أي من المنتجات السياسية الحديثة، أعني الديموقراطية أو الليبرالية أو التعددية الثقافية أو الاشتراكية...، فحديثي هنا مختلف تماماً عن سؤال رفض أو تبني هذه المفاهيم لأي سبب كان. بل سيكون حول بعض أعراض التعامل مع هذه المنتجات السياسية تعبيراً عن أمرين، أحدهما: الخضوع لعلاقة هيمنة أوروبية - أميركية في مجالات متعددة من أبرزها المجال السياسي. ثانيهما: حال الإحباط من الوضع السياسي في العالم العربي، التي تؤدي إلى محاولة رفض وإدانة كل التاريخ السياسي للعرب على مر قرون، والخروج بأحكام أراها مجحفة في أحايين كبيرة، وجاءت عن طريق انحيازات هائلة. يتجلى الخضوع للهيمنة في مجال التنظير السياسي من خلال اعتبار المفاهيم السياسية الحديثة مرادة لذاتها، واعتبارها قيماً عليا يُتحاكَم إليها، لا طرق وأدوات سياسية يراد منها تحسين حياة البشر، فعكس هذه الرؤية محاولة تحسين حياة البشر وبحث عدل الدولة، بغض النظر عن الوسائل. فالمطلوب هو الوصول إلى قيم تجعل المجال السياسي مجالاً نافعاً للبشر. القيم التي يسعى إليها البشر في المجال السياسي هي العدل والمساواة والأمن وقيم أخرى عليا يمكن بحثها في مجال الفلسفة السياسية، لا الديموقراطية أو الليبرالية أو الاشتراكية...، التي هي وسائل مختلفة تحاول أن تحقق تلك القيم، لا قيماً، بحد ذاتها. اعتبار هذه الأخيرة قيماً - بحد ذاتها - غيّر كون المغالطة خضوعاً لهيمنة الآخر. نجد أعراض اعتبار المفاهيم السياسية الحديثة قيماً في أمرين، الأول: محاكمة التاريخ العربي والإسلامي بحسب معايير سياسية حداثية. الثاني: ممارسة إسقاط المفاهيم السياسية الحديثة على وقائع تاريخية لا تمت إليها بصلة. في الحال الأولى يُقرَأ التاريخ الإسلامي أو العربي على ضوء المفاهيم السياسية الحديثة، فلا يُبحَث عدل الوضع السياسي على سبيل المثال، بقدر ما يُشطَب هذا التاريخ بدعوى أنه لم يكن ديموقراطياً، أو لم يطبق معايير حقوق الإنسان، أو لا يتيح الحريات الفردية...، فيتم طمس تراث كامل وتشويهه بسبب خضوع الباحث لهيمنة هذه المفاهيم الحديثة وسطوتها. هذه القراءة تتجاهل أن هذه المفاهيم السياسية ليست قيماً يُتحاكَم إليها، وأن التاريخ السياسي يُحكَم عليه وفق سياقاته، وإمكاناته الخاصة، لا وفق إسقاط أحكام الحاضر على الماضي. وإن مارسنا الإسقاط ذاته فلا يمكن قراءة أي عدل أو خير في التاريخ الإنساني، الذي لن يعدو أن يكون تاريخاً من اللاديموقراطية أو من انعدام الحقوق الفردية. بدل قراءة ما يجعل تلك التجارب التاريخية الإنسانية مفيداً بالنسبة إلينا. في الحال الثانية يمارس متبني هذه القيم - وغالباً يعتبرها حلولاً نهائية لوضعنا الحالي - إسقاطها على الماضي. فيعتبر أن العرب أو المسلمين وصلوا إلى هذه المفاهيم قبل اجتراحها في سياقات الحداثة. فعلى سبيل المثال، يحاول أن يتأول الشورى في التاريخ الإسلامي على أنها النظام البرلماني، وسؤال الصحابي عبدالرحمن بن عوف لسكان المدينة عن أحقية لعلي بن أبي طالب أم عثمان بن عفان رضي الله عنهما للحكم، كممارسة لانتخابات ديموقراطية، ووثيقة المدينة التي كتبها الرسول - عليه الصلاة والسلام - لتنظم علاقته مع يهود المدينة، على أنه الدستور الحديث للدولة...، من هذه الإسقاطات التي تسيء إلى التاريخ، بمحاولة الحكم عليه بأثر رجعي. وإلى هذه المفاهيم ذاتها، التي جاءت مع ميلاد دولة حديثة، وسياقات مغايرة، لا علاقة لها بذلك العالم القديم. ينتج هذا السلوك كذلك من تجاهل تاريخ هذه المفاهيم ذاتها، التي مرت بمراحل تحولات وتغيرات هائلة، فيتم اختزال دلالتها في ظواهرها، وتجاهُل أنها شبكة مفاهيم ومجالات متداخلة لا مجرد ممارسات بسيطة. فالديموقراطية - على سبيل المثال - لا يمكن اختزالها في الانتخاب أو التمثيل، والنظام البرلماني لا يمكن اختزاله بسؤال النخب عن رأيهم...، فهذه المفاهيم تبنى من خلال مؤسسات متكاملة، لا مجرد ظواهر وممارسات يمكن البحث تاريخياً عما يشابهها والحكم بتماثل الحالتين. الحديث هنا مختلف عن محاولة تشريع المفاهيم السياسية في السياق الديني، فهذا بحث آخر لا أقصده هنا. وإن كان الكثير ممن يحاول أن يشرّع المفاهيم السياسية دينياً يقع في فخ إسقاطها على الماضي، واقتراح وجود الديموقراطية أو حقوق الإنسان...، في التراث. لكن حديثي عن اعتبار هذه المفاهيم موجودة لدينا منذ القدم، وليس علينا إلا إعادة الأخذ بها. وهذه مغالطة التي أعنيها. التنبه إلى حالات الهيمنة والوقوع تحت سطوة الآخر مهمة، من أجل ألا نكتشف في نهاية المطاف أن تصرفاتنا ليست ناتج إرادتنا، وإنما هي تجلٍّ لتمثل الآخر ومحاكاته، والوقوع تحت هيمنته. الخاضع لسلطة ثقافية أو علمية أو سياسية تجرد عن استقلاله من دون دراية منه، فلا يستطيع كشف أوهام ما يتسلط عليه، وهو ما يجعله أداة ووسيلة، لا غاية في حد ذاته. * كاتب سعودي. BALRashed@