الاقتصادية - السعودية .. أنا لستُ من المعجبين جداً بجريدة "الدايلي ميرور" البريطانية، ففيها من البجاحات والسخائف والقذاعة الكثير، وأحرص على متابعتها لأنها وراء تأسيس واحدة من أجمل وأكثر المسابقات الإنسانية شعبية في الجزر البريطانية.. وأرقاها في القيمة الإنسانية. والمنافسة تحت عنوان: "جائزة فخر بريطانيا" Britain Award of Pride، وهذه المرة يفوز طفلٌ عمرُهُ ثماني أعوام.. واتفق على فوزه الجميع، وأصبح هذا الطفلُ الأشهر والأحب عند عامة الناس بين يوم وليلة.. على أن جهادَهُ الشخصي وامتداده الاجتماعي لم يكن بين ليلةٍ وضحاها. الطفل اسمُهُ كيلسي تريفيتKelsey Trevett، في الخامسة من عمره أصيب بسرطان العين، وبعد عمليات كثيرة لاستئصال خلايا المرض الفتاك كانت النتيجة المفجعة أنه فقد بصرَه.. أول ما غرق في الظلام وهو بالمستشفى، لمّا شعر بدخول والديه بادرهما كيلسي الذي لتوِّه فقد بصرَه قائلا: "أنا صحوت ووجدت أمامي حائطاً يفصل بيني وبين العالم"، وهنا هلّت الدموعُ من عيني الأب، وشهقت الأمُّ بالبكاء، على أن الابنَ فاجأهما قائلا بثباتٍ وقوة شكيمة: "ولكني أعدكما بأني سأخرق هذا الجدارَ الأسودَ، وسأرى العالم". ولم يحنث "كيلسي" بوعده، بل تعدى الوعدَ بمراحل. غير الطفلُ كيلسي نمط حياته بالكامل، واكتشف عزماً جديدا، "ووجدتُ أني أذكى، وأني أقدرَ من ذي قبل. أولُ درسٍ عرفته أن أكبر ما انخدعنا به هو كلمة: مستحيل.. إني الآن أرى أكثر من قبل!" وتفوق "كيلسي" في الانسجام مع عالمٍ نظنه نحن المبصرون مظلما، فإذا هو عمقُ الأنوار. وأنا أقرأ ملحمة الطفل الإنجليزي "كيلسي" وصل لقلبي وكأنه يريد أن يقول: "لستُ أعمى بل إني في منبع الأنوار، وما ترونه أنتم هو الإشعاع الذي يبهركم، فلا يدعكم تفكرون بوضوح، ولا تجدون بأسَ العزيمةِ التي لا تلين". تذكرون وعد كيلسي لوالديه؟ لقد تفوق على وعدِه! وصار يقدم الخدماتِ لأصحاب الإعاقة ويساعدهم على إيجاد منابعَ "بأس العزم الذي لا يلين"، بل إنه صار وهو في أوجِّ الطفولة مستشارا يقدم خدماته للمختصين.. تصوروا! ولما دعاني أخي خالد الهاجري، وهو أحد الأبطال الذي وجد "بأس العزيمة التي لا تلين"، لمعرض تقيمه جمعيته الخاصة بأصحاب الإعاقات.. فوجئت بصبيٍّ كفيفٍ في بواكير عمره، بارق الذكاء، لطيف الحضور، ويملك موهبة لا تتوافر لكثيرين وهي السخرية الذكية، ويُصَنَّف الذكاءُ الساخرُ في مراتب عليا للذكاء.. كان يحاول أن يعلمني أن أقرأ بأصابعي بطريقة "برايل"، وكنت أتعثر، فضحك بجماليةٍ تخطف الروح، وقال: "إيش فيك إنت ياخي.. ما تشوف؟!". مجتمعُنا مليءٌ بهؤلاء العظماءِ، الأبطالُ الإنسانيون الذين وجدوا منابعَ "بأس العزيمة التي لا تلين"، فما الذي يمنعنا أن نجعلهم استيحاءً للبطولة والنبل والإنسانية المتفوقة؟! هؤلاء هم الذين سيمسحون عن جباهنا عرق الإحباط والشكوى واليأس، بينما نجد بعض "المكتملين بأعضائهم" يضعون في أرجلنا أحجارا إضافية لنغرق أكثر في وحل الشكوى والذم وإشعال غضب النفوس السلبي بلا اقتداءٍ وبلا عملٍ وبلا محاولة إيجاد حلول. إذن بقي علينا شيء أتمناه من كل قلبي، أن تكون عندنا منافسة شهرية تبرز أبطالنا الإنسانيين باسم "جائزة أبطال المجتمع". ليست جريدة "الميرور" البريطانية الفضائحية أفضل منا!