الجزيرة القطرية يعتمد الرهان على الانقلاب على عنصر جوهري واحد هو عامل الوقت وتطبيع الموقف بمرور الزمن، أي على التوقع أن الناس ستتعود على أن هناك رئيسا للوزراء اسمه حازم، ونوابا له من بينهم زياد وحسام، وأن هناك وزيرا للداخلية اسمه إبراهيم، وأن من وراء هؤلاء جميعا يد تأمر بكل شيء هي يد الفريق عبد الفتاح الذي يملك آلاف الدبابات والطائرات والمدرعات والبنادق، ويسخرها في تثبيت هذا الانقلاب. هذه وجهة نظر قائمة وإن كانت قاتمة, ولا شك في وجود من يؤيدونها وبخاصة من الصحفيين الذين يناقشون أمورا جزئية من قبيل أن القانون التاسع!! من قوانين عصر الانقلاب لم يمر على المعارضة الوهمية، وكان أولى به أن يمر، أو أن بيان رئيس الجمهورية الصوري ينطق بما يتعدى صدور وجوده الشكلي، وهي مناقشات تؤكد بنعومة على هدف واحد هو تطبيع المشهد في الأذهان بدلا من أن تناقش شذوذ هذا المشهد واستحالة استمراره على هذا النحو. في مقابل هذا التصور فإنك إذا انتقلت إلى المواطن البسيط الذي هو أصدق معبر وأصدق مؤشر على طبيعة الأمور، فستجده معرضا تماما عن كل هذا العبث متمسكا كل التمسك بأن ما بني على باطل فهو باطل، وأن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، وأن الذين يمارسون سلطة الانقلاب خونة مصيرهم هو مصير كل خائن، وأن الشعب سوف ينتصر في لحظة من اللحظات ولن يرضى بعودة هذا البديل الذي ساءه وأساء إليه على مدى ستين عاما. وعلى الخط نفسه، تجد المصريين في الخارج يشدون على أيدي أهاليهم في الداخل مؤكدين أن الحق ساطع وأن النصر قادم وأن أحدا عاقلا لا يتبنى رؤية هؤلاء الذين يغالطون أنفسهم ويعتبرون أن من الإنجاز أن يتم الانتصار على جماعة وطنية وإبعادها بالقوة المسلحة عن مقاعد الحكم التي نالتها بالانتخابات. فإذا تجاوزنا آراء الانطباع الأول إلى ما يدعمها من بنية تحتية تتمثل في البراهين، فسنجد أن أنصار الانقلاب ما زالوا يبنون آمالهم على جاذبية فكرة استمرار القوة العسكرية في أيدي قادة الانقلاب باعتبارهم المسؤولين عن القوة وعن مخازنها ومستودعاتها بحكم الوظيفة والمهنة. ويبنونها من ناحية أخرى على استمرار تدفق دفعات الدعم المادي من الملكيات الأوتوقراطية العربية التي أصبحت دون داع تربط وجودها وبقاءها بنجاح الانقلاب، مع أن الانقلاب لا يعيد الحكم العسكري إلى أسرة مالكة ولا إلى نظام ملكي وإنما يعيده إلى أيدي العسكر الذين حاربوا فكرة هذه الملكية بكل ما يملكون من تجاوز للأعراف والأهداف على حد سواء، لكن الوضع الجديد في نظر هؤلاء بات يتطلب تحولا جذريا في تحديد العدو والصديق طبقا لمعايير غير مسبوقة في تاريخ التشكيل الاجتماعي للفكر السياسي على مدار التاريخ الإنساني. وهنا يبدو الأمر عجيبا حقا حين نرى دولا عرفت ولا تزال تعرف بانتمائها الحميم إلى التعاليم الإسلامية والمناهج الإسلامية، تعلن بكل وضوح مرة بعد أخرى عن توجسها من طبيعة النشاط السياسي والتنموي الذي تقوم به الجماعة التي وصلت إلى مقاعد الحكم في مصر عن طريق الانتخابات البرلمانية. ولا يقف الأمر عند هذا الحد من التوجس، لكنه يتطور إلى تراشق من جانب واحد، حيث يتعمد الإعلام الموالي للانقلاب إلصاق كل نقيصة خلقية وسياسية بالقوى السياسية التي عانت من وقوع وظلم الانقلاب في مصر. على أن مرور الأيام كان كفيلا بأن يلقي كثيرا من الضوء الكافي لتصحيح الانطباعات الذهنية المتصورة عن هذه الحالة الشاذة التي أوجدها أو أججها حدوث الانقلاب، وهي انطباعات باتت تحفر لنفسها ظلالا في الفكر العربي الحديث، ويمكن لنا في هذا الصدد أن نرصد اثنتين من هذه الحقائق. الحقيقية الأولى: هي أن الانقلاب كشف عن القوة الحقيقية لجماعة الإخوان المسلمين، وهي قوة جرى التقليل من شأنها عن عمد وعن احتراف طوال سنوات عديدة، فإذا بها تبرز على السطح بأقوى مما يمكن لأحد أن يتصور، وإذا بأعدادها غفيرة، وبكوادرها منظمة، وتراتبها صلبا، وبدائلها متعددة، وإذا امتدادها المكاني لا يعرف حدود المكان، وامتدادها العمري يمتد إلى أجيال لم يكن أحد يتوقع أن تمتد إليها. ومع أن جموع الشعب قد شاركت الإخوان ثورتهم على الانقلاب وانتظمت ضمنهم ضده، فإن أحدا لا ينكر أن الكتلة الكبرى لمعارضي الانقلاب بدأت بالإخوان المسلمين. ومما يؤسف له أن كتابا كبارا وآخرين حاصلين على درجات علمية عالية في علوم السياسة كانوا يوقنون بوقوف عضوية الإخوان عند رقم مائتي ألف على أعلى تقدير، فإذا بالحقيقة تفرض نفسها في صورة لا تقبل التقليل ولا التهوين، وإذا الأعداد في الشوارع هنا وهناك، ورغم قانون التظاهر وما قبله وما بعده، تتحدى كل هذه التقديرات الوهمية التي لم تبن على أي أساس من المنطق أو العلم أو التاريخ. ومع أن قوة الإخوان تنقصها عدة عناصر من العناصر المهمة في مثل هذا الصراع السياسي، فإن هذا النقص لم يؤثر على الحشد ولا على الاتساع ولا على تكون الكتلة الحرجة الكفيلة بالتعبير عن الانتصار للرأي أو المذهب أو التوجه السياسي، أو على أقل تقدير للموقف السياسي الراهن. وهكذا بان بوضوح أن الانقلاب يمضي في طريقه المرسوم سلفا، وهو أنه انقلاب على قوة سياسية إسلامية حقيقية وصلت إلى مقاعد الحكم بإرادة الشعب وبغير إرادة القادة العسكريين المتعصبين لزيهم دون أن يكون لهم إنجاز يذكر في الإدارة أو العسكرية أو السياسة. وهكذا تحددت طبيعة الانقلاب على أرض الواقع بأنه انقلاب عسكري ضد إرادة جماهير الشعب، وهذه في حد ذاتها أسوأ نتيجة يمكن أن يصل إليها انقلاب على مدى ستة شهور، وهي نتيجة تبشر على المدى الطويل بسقوط مثل هذه الانقلاب أيا ما كانت الطريقة التي يسقط بها. الحقيقة الثانية: هي أن القوى السياسية والاجتماعية التي حاولت أن تغطي الانقلاب فشلت على مدار ستة شهور في الوصول إلى اتفاق يجمعها تحت مظلة واحدة، حتى لو كانت المظلة كاذبة أو مزيفة. وقد بان لها جميعا بما لا يقبل الشك أن ما يفرق النخبة المساندة للعسكر أكبر بكثير مما يجمعها، كما بان بكل وضوح أن الأسباب الشخصية وحدها كانت هي التي دفعت بالانقلاب إلى ما اندفع إليه. وسيقف التاريخ مشدوها أمام كاتب عاش إلى حد كبير مستورا مستدفئا بانتماء قديم فإذا بكل تاريخه يتبخر، وقد اسود وجهه من أجل إنقاذ ابنيه المتورطين في قضايا فساد مع أبناء عهد مبارك. وسيقف التاريخ مشدوها أمام أزهريين أو كنسيين وصلوا إلى أعلى المناصب الدينية، فإذا بهم يتورطون في المجازر والمذابح خوفا من أن تفتح الدولة العميقة ملفاتهم التي قد يكون فيها من المثالب الشخصية والجنسية والمادية ما يزري بصورتهم، مع أن هذه المثالب لا تصل في جرمها إلى عشر معشار ما اقترفوه بوقوفهم ضد الشعب ومع الانقلاب. ومع أن التريث في اتخاذ المواقف السياسية يعتبر ملاذا آمنا لمن يريد أن يحتفظ بمكانة في وجدان القراء، فإن اندفاع الكثرة الكاثرة من الصحفيين والإعلاميين إلى تأييد الانقلاب جعلت المشاهد والقارئ البسيط يدرك أن تلك الحادثة التي وقعت (انقلابا كانت أو ثورة) هي حملة منظمة وليست حادثا عارضا، وأن الأمر تعدى التشجيع إلى التحريض، كما تعدى التخطيط إلى التآمر، وتعدى التورط إلى التعمد. وكان هذا كله مما أدى إلى زيادة مشاعر الريبة من الانقلاب، وهي مشاعر أججت المقارنة بين عهد مرسي الذي دام عاما واحدا وقام الانقلاب عليه، وبين عهد الانقلاب الذي ساءت الأوضاع الأمنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية فيه بسرعة إلى أبعد حد ممكن، بل إلى أبعد حد متصور. وهكذا تطورت الأمور على ضفتي النهر لتضيف أبعادا متجددة في صمود الشعب وصمود الإخوان وتفهم الطرفين -أي الإخوان والشعب المتعاطف معهم- لطبيعة دور كل منهم في الصمود والإعلان عنه والتصدي والتعبير عنه، واتسعت رقعة هذا الفهم لتشمل المصريين في الخارج بالإضافة إلى المصريين في كل ركن قصي من أركان الوطن. وتطورت الأمور من ناحية أخرى لتصور الانقلابيين بما يقترب من الحقيقة المنطقية التي تصورهم يخضعون لتوجيه خارجي ويتحركون بمؤثر خارجي وبدعم خارجي وبتمويل خارجي، ويتوقفون عند ظهور الإشارات الحمراء في مصابيح أجنبية فيعدلون عن بعض الشطط الذي كانوا قد اندفعوا إليه. وهو ما ظهر واضحا على سبيل المثال في قضية فتيات الإسكندرية التي استهجن وزير الدفاع الأميركي الحكم عليهن بتلك الأحكام القاسية، فعجل هذا استئناف القضية لتخفيف أحكامها إلى سنة واحدة بدلا من 11سنة!! وقد ربط المصريون هذا التصرف بتصرفات متكررة من هذا القبيل جعلت المصريين يقللون من عمومية ثقتهم في القضاء المصري ويستدعون نقدهم الدائب للتصرفات السينمائية التي يقوم بها رئيس نادي القضاة أحمد الزند ومجموعة من أتباعه تجعل الناس يظنون أن القضاء ينتحر على أيديهم، بل ويدفع بالانقلاب أيضا إلى الانتحار، ومع أنه احتمال بعيد فإن التفكير في إمكانية حدوثه يزداد يوما بعد يوم مع ضغط الشارع وفشل الواقع. وهكذا يبقى الأمر مرة أخرى رهينا بتصرفات خارجية عالية تنتظر أحكاما قدرية صارمة هي في ظن الانقلابيين الأحكام الوحيدة الكفيلة بتغيير الواقع المصنوع عن إذعان حقيقي لا عن اقتناع مستحيل.