الاقتصادية - السعودية البت كوين هي وسيط رقمي للتبادل Cryptocurrency ، أو عملة رقمية يتم إصدارها من مصدر مفتوح للتعدين لأي شخص في العالم من خلال حل مجموعة من الخوارزميات المعقدة لكي يتمكن من تعدين "إصدار" هذه العملة وتحويلها إلى أصل في محفظة مالية خاصة لتستخدم بعد ذلك عبر الإنترنت مثلها مثل أي عملة في العالم، غالبا تحت أسماء مستعارة. تختلف البت كوين عن باقي عملات العالم في أنه لا يتم إصدارها من جانب بنك مركزي، ولا تحمل شعار دولة، وليس هناك سياسة نقدية ترتكز عليها، أو سلطات نقدية تدافع عنها، وتستغل هذه الخصائص للترويج لها على أنها لا تخضع لتأثير أي سلطة نقدية تتلاعب بكمياتها ولا تتعرض بالتالي لمخاطر تراجع قوتها الشرائية. وبالمناسبة هي ليست العملة الرقمية الوحيدة، ولكنها أشهرها في العالم، وكنت قد تناولت هذه العملة بالتحليل في مقالين متتاليين على "الاقتصادية" بعنوان "النقود الافتراضية" وذكرت أن من قام بإدخال هذه العملة يدعى "نوكاموتو ساتوشي"، وحتى اليوم لا يعرف ما إذا كانت هذه التسمية تعود لشخصية حقيقية أم لجماعة أو لمؤسسة... إلخ. التساؤل الأساسي التي أحاول أن أناقشه اليوم هو هل يمكن أن تتحول البت كوين إلى عملة العالم لتحل محل العملات التقليدية مثل الدولار الأمريكي؟ وهل بالفعل يمكن أن تلقى عملة رقمية لا يصدرها بنك مركزي في العالم قبولا من المتعاملين فيها لتحل محل العملات التقليدية؟ وهل نحن بصدد دخول مرحلة جديدة من التاريخ النقدي للعالم تختفي فيه النقود التقليدية لتستخدم بدلا منها نقود رقمية مستقلة لا تتبع سلطة نقدية محددة في العالم؟ وهل من الممكن أن تستخدم البت كوين كعملة احتياط عالمية لدى البنوك المركزية، حيث تصبح وسيلة الدفع الأساسية في المعاملات التجارية أو المالية الدولية؟ لعل القارئ المتخصص يدرك أن هذه أسئلة في غاية الحرج، والإجابة عنها أيضا مسألة في غاية الصعوبة لتعدد العوامل التي تلعب دورا أساسيا في هذا المجال. في هذا المقال سأحاول الإجابة عن السؤال الأول، منبها القارئ في البداية إلى أن عملات العالم هي العملات التي تلقى قبولا واسعا على المستوى الدولي، وتتوافر منها كميات كافية لتلبية احتياجات المتعاملين فيها لتسوية المعاملات التجارية والمالية عبر الحدود، فضلا عن استخدامها كأصل احتياطي لدى البنوك المركزية، ويدعم هذه العملات أسواق مال واسعة بصفة خاصة للسندات قصيرة الأجل التي تسمح باستثمار فوائض هذه العملات فيها، ولهذه الخصائص يعد الدولار واليورو أهم عملات العالم. ما إن تم إصدار البت كوين حتى أخذت أخبارها تنتشر على نحو كبير بين وسائل الإعلام المختلفة، كما حظيت باهتمام البنوك المركزية في العالم، وبدأ الحديث عن نمط جديد من النقود الرقمية أو الافتراضية التي تنخفض رسوم استخدامها على نحو كبير مقارنة بالبطاقات الائتمانية، لدرجة أن البعض أصبح يبشر بقدوم عصر النقود الرقمية، واختفاء النقود التقليدية. شخصيا أعتقد أن انتشار البت كوين على هذا النحو الذي نراه حاليا لم يكن ليحدث لولا الأزمة المالية العالمية، وتراجع ثقة الكثير من الناس بعملات دولهم أو في العملات الدولية بصفة خاصة الدولار، وتراجع فرص الاستثمار المربح مع تراجع معدلات الفائدة إلى الصفر تقريبا في معظم دول العالم، وانتشار الدافع نحو المضاربة في أصول تحقق عوائد مرتفعة مثل الذهب، ومن ثم مثلت البت كوين بديلا أمثل للمضاربين الذين يبحثون عن العائد المرتفع ولديهم استعداد لتحمل المخاطرة. وفقا لنظام البت كوين فإن الحد الأقصى الذي يمكن تعدينه منها يبلغ 21 مليون وحدة فقط، تم تعدين نحو 12 مليون وحدة منها حتى الآن، وحاليا يتم تعدين نحو 3600 وحدة بت كوين في اليوم حول العالم، وآخذا في الاعتبار أن هناك تسعة ملايين وحدة تقريبا هي ما تبقى منها للتعدين يمكن القول إنه بمعدلات التعدين الحالية فإن الكمية المصدرة من البت كوين ستصل إلى حدها الأقصى في غضون نحو ست سنوات من الآن. غير أن عملية خلق البت كوين لا تتم على هذا النحو، فكل عدة سنوات يتم تخفيض الكميات التي يمكن تعدينها يوميا إلى النصف، مما يعني أن المجال سيظل مفتوحا لأن تستمر عمليات التعدين لعشرات، أو ربما مئات السنين في المستقبل. ولكن كيف يمكن ل 21 مليون وحدة نقدية أن تصبح عملة العالم الذي يحتاج إلى كمية هائلة من النقود يوميا لتمويل معاملاته التجارية والمالية؟ على سبيل المثال تشير إحصاءات بنك التسويات الدولية أخيرا إلى أن العالم يتداول أكثر من خمسة تريليونات دولار يوميا في سوق النقد الأجنبي، فكيف يمكن أن تحل 21 مليون وحدة من هذه العملة محل الدولار مثلا؟ الإجابة تكمن في طريقة تقسيم هذه العملة، فقد تعمد من أنشأ هذه العملة إلى تقسيم وحدة البت كوين إلى جزيئات تسمى ساتوشي، حيث يسمح للقيمة الإجمالية لها بأن تصل إلى أي رقم، فكل وحدة بت كوين تحتوي على 100 مليون ساتوشي، معنى ذلك أنه إذا كان المتعاملون في هذه العملة اليوم يتعاملون أساسا بوحدة البت كوين، فإن المجال يعد مفتوحا للتعامل بوحدة الساتوشي عندما ترتفع أسعارها في المستقبل. لو تصورنا مثلا أن البت كوين تحولت الى عملة للعالم وارتفعت قيمة الساتوشي الواحد لتبلغ دولارا واحدا، فإن وحدة البت كوين ستصبح قيمتها 100 مليون دولار، وبأخذ الحد الأقصى المسموح بتعدينه من البت كوين في الاعتبار وهو 21 مليون وحدة، فإن اجمالي العرض من الأساس النقدي Monetary Base للبت كوين سيبلغ 2100 تريليون دولار، وهو رقم خيالي يتجاوز احتياجات العالم من النقود مئات المرات. بالطبع إذا سمحت دول العالم أن يتم فتح حسابات لدى البنوك بالبت كوين وبدأت البنوك في ممارسة نشاطها التقليدي بتحويل المودعات إلى قروض ومن ثم خلق ودائع "نقود" من هذه المودعات، فإن عرض النقود من البت كوين سيتسع على نحو كبير ويعتمد ذلك على مضاعف خلق الودائع، على النحو الذي يضمن أن عرض النقود من البت كوين على المستوى العالمي يمكن أن يصل إلى مستويات تكفي تمويل احتياجات العالم أجمع منها. والآن إذا كانت البت كوين تسمح بتوفير حاجة العالم الكمية من النقود فهل يمكن أن تتحول البت كوين إلى عملة العالم؟ الإجابة من الناحية النظرية نعم، فطريقة تقسيم هذه العملة وتسعيرها يمكن أن تسمح بتوفير أساس نقدي يكفي احتياجات العالم كله من النقود، ولكن هناك من العوامل ما يمنعها من أن تقوم بذلك، وهذا ما سأحاول تحليله في مقالي الأسبوع القادم إن أحيانا الله.