الوطن - القاهرة أزعم فى هذا المقال أن قطاعاً من مصر والمصريين، لا سيما من الشباب، وقع فى فخ الاهتمام باللافتة الأيديولوجية، ومعها أحياناً اللافتة الحزبية، دون إدراك أن الشعارات واللافتات الأيديولوجية ليست بهذه الأهمية فى حالة دول مثل مصر. تعالوا نبدأ بالتعريف، يقول «Willard A. Mullins»: إن الأيديولوجيا هى مجموعة من الأفكار عن العالم تتصف بأربع صفات؛ أولاً هى تؤثر فى إدراك (cognition) الإنسان للعالم المحيط به، ثانياً هى تؤثر فى تقييمه (evaluation) لما يحدث حوله، ثالثاً هى تعطيه إشارات فى اتجاه ما ينبغى فعله (action)، رابعاً شريطة أن تكون متسقة منطقياً (logically coherent). إذن هى أقرب إلى نظارة ومسطرة وبوصلة، نظارة ذات لون معين، يرتديها صاحبها فتجعله يدرك الأمور بلون هذه النظارة، بل وتجعله يقيس الأمور وفقاً لها، ثم توجهه للفعل واتخاذ قرارات وفقاً لما تراه. شاء قدرى فى رسالتى للماجستير أن أدرس ست عشرة أيديولوجيا عن الاقتصاد السياسى للدولة، وكان الاستنتاج الأهم الذى خرجت به هو أن الأيديولوجيا ليست مثل الدين الذى نضحى بالنفس والمال من أجله، وإنما هى أقرب إلى الدواء الذى يستخدم فى حدود ما نحتاجه. ووضع الأيديولوجيا مقام الدين هو الخبل الذهنى بذاته. أتفهم أن بعض الشباب ممن ينتمون لحزب أو تنظيم يحتاج الأيديولوجيا لفترة، لأن الأيديولوجيا، عند من لم يطور بعد القدرة على التفكير العلمى والنقدى المستقل، تكون مثل المدرسة التى تساعده على أن يفهم العالم المحيط به. فلو كان ماركسياً تقليدياً، فسيرى كل ما يحدث فى العالم كجزء من صراع طبقى بين الأغنياء والفقراء بأشكال مختلفة، ولو كان محافظاً دينياً، فسيرى كل ما يحدث حوله فى العالم على أنه صراع بين المؤمنين وأعداء الدين، ولو كان رأسمالياً تقليدياً، فسيرى الكون باعتباره صراعاً بين المبدعين والمخاطرين ومن يريدون أن يوقفوا عجلة التطور والإبداع والتراكم الرأسمالى من أجل محاباة قليلى الموهبة والكسالى. بعض دارسى تاريخ الأفكار والأيديولوجيات رحبوا بكتابات دانيل بيل (Danielle Bell) عن نهاية الأيديولوجيات الجامدة وانتقال العالم إلى «البرامج العملية» فى مجالات السياسة والاقتصاد والتعليم والتمويل وغيرها من تعقيدات تجعل النظريات الكبرى غير قادرة لا على التفسير أو التقييم أو التوجيه. دانييل بيل كان يصف نفسه بأنه «اشتراكى فى الاقتصاد، ليبرالى فى السياسة، محافظ فى الثقافة» وفى مقولة أخرى له: «الأيديولوجيا هى جزء من نظريات تفسير الماضى أكثر منها برامج عمل للمستقبل». ويقول كارل بوبر: «النظرية تظل غير قابلة للاختبار حتى تنتقل من كتب الفلسفة إلى كتب التاريخ»، وهو ما حدث بشكل مباشر مع العديد من المقولات الكبرى التى ظلت تحكم الكون. لماذا نجح لولا دا سيلفا «اليسارى» فى البرازيل؟ ولماذا نجحت مارجرت تاتشر «اليمينية» فى إنجلترا؟ ولماذا نجح أردوغان «الإسلامى» فى تركيا؟ ولماذا نجح مهاتير محمد «العلمانى» فى ماليزيا؟ ولماذا نجح تساو بينج «الشيوعى» فى الصين العملاقة؟ ولماذا نجح لى كوان يو «البراجماتى» فى سنغافورة الصغيرة؟ ولماذا نجح بارك تشانج هى «العسكرتارى» فى كوريا الجنوبية؟ ولماذا نجح بول كاجمى «الليبرالى» فى رواندا؟ قبل أن أجيب عن الأسئلة، تعالوا نضع الأساس المنهجى: «الثابت لا يفسر متغيراً والمتغير لا يفسر ثابتاً»، بعبارة أخرى لا يمكن أن أفسر نجاح كل هذه الأسماء السابقة النسبى بما بينهم من اختلافات، لأن هذه الاختلافات، لو كانت الأيديولوجيا على هذا القدر من الأهمية، كانت ينبغى أن تجعل بعضهم ينجح لأنه متمسك بالأيديولوجيات الصحيحة، وبعضهم يفشل لأنه متمسك بالأيديولوجيات الخطأ. لكن ما حدث أن أشخاصاً مختلفين فى سياقات مختلفة متبنين لأيديولوجيات مختلفة نجحوا، وهناك غيرهم متبنون لنفس الأيديولوجيات فشلوا. هل تعرف مطعم «كشرى» رائعاً وآخر فاشلاً؟ هل تعرف مطعم أكل هندى رائعاً وآخر فاشلاً؟ الإجابة غالباً «نعم»، والسر ليس فى كونه هندياً أو «كشرى»، القضية فى التفاصيل. القضية فى أن من يقوم على الإدارة «مخلص وشاطر»، ليس مخلصاً لنوعية الطعام ولكنه مخلص للزبون. معظم هؤلاء الذين أشرت إليهم فى هذه المقالة لم يكونوا مخلصين لأيديولوجياتهم بل كانوا مخلصين لأوطانهم. تساو بينج الزعيم الصينى الذى جاء إلى السلطة فى السبعينات هو أول من أدخل فكرة «الأقاليم الاقتصادية الحرة» (Free Economic Zones) وهى مناطق اقتصادية منعزلة تماماً عن الفكر الاقتصادى الاشتراكى التقليدى وتدار بطريقة رأسمالية تماماً فى قلب الصين الشيوعية. لى كوان يو، الزعيم السنغافورى الأهم، ورغم أنه كان ضد تدخل الدولة فى النشاط الاقتصادى تماماً، فإنه قبل به وخلد مقولته الشهيرة: «لا يعنينى إذا كانت القطة سوداء أم بيضاء، المهم أن تمسك بالفأر». بل إن هؤلاء قبلوا أن يغيروا مساراتهم الأيديولوجية حين ثبت لهم خطؤها بما يتفق مع المقولة التى أوضحتها فى بداية المقالات بأن الأيديولوجيا مثل الدواء نأخذ منه بقدر ما نحتاج وليس ديناً نموت من أجل إثبات صحته. ما يستحق أن نموت من أجله هو الوطن والدين وليس الأيديولوجيا أو الحزب أو التنظيم. وبالمناسبة فى أكثر من ثلث الحالات يصوّت النواب فى البرلمانات الديمقراطية ضد التوجه العام للحزب الذى ينتمون إليه، ولا يجدون غضاضة فى ذلك. وكلما ارتفع الجمود الحزبى أثناء عمليات التصويت، ارتفعت حدة الخلافات السياسية المفضية إلى استقطابات تضر بالدولة والمجتمع. لا أخفى القارئ الكريم سراً، أكثر ما يزعجنى فى مصر، ليس الاختلاف الأيديولوجى، ولكن ضعف الكفاءة المذهل فى كل المجالات والقطاعات وتحت كل الأيديولوجيات، لدرجة أفقدتنى الثقة فى الكثيرين. أعطنى شخصاً «مخلص لبلده وشاطر فى شغلته» وأنا عن نفسى معه. المسألة الآن أن كل الأيديولوجيين فى الضعف سواء. القضية ليست من يحكمنى ولا لأى أيديولوجيا أو حزب أو خلفية ينتمى، القضية كيف يحكمنى ووفقاً لأى برنامج عمل. بالعودة إلى شبابنا ممن أرى فيهم فائض طاقة يريدون أن يترجموه فى مقولات عظمى سواء منتسبة إلى كارل ماركس أو إلى حسن البنا أو «حسن حوكشة»: اقرأوا لتعرفوا وليس لتؤمنوا، كونوا «أصحاب رأى» وليس «أصحاب الرأى»، لا تجعلوا الأيديولوجيا قائدكم فى التصنيف هذا عدو أو هذا صديق. مصر ليست بحاجة لشعارات أيديولوجية وإنما بحاجة لبرامج عمل قائمة على دراسات ميدانية وحقائق موثقة. ومن لا يستطيع تقديم برامج عمل، لا يحق له أن يلقى بنفسه وبلده فى سجن الأيديولوجيا البغيض. والله أعلم.