موقع العلوم القانونية فرض تطور مسؤولية الدولة تطورا منطقيا أيضا في مجال النشاط القضائي بعدما كانت السمة العامة هي هيمنة مبدأ عدم المسؤولية عن أعمال السلطة القضائية استنادا لمجموعة من الحجج والتبريرات. أهمها استقلال القضاء كسلطة لأن استقلال مرفق القضاء ومسؤولية يضفي كل منهما المشروعية على الآخر وذلك بالموازنة بين السلطة والمسؤولية فكل من الاستقلالية والمسؤولية يقيدان ويعززان ويبرران أحدهما الآخر. فإذا أردنا استقلال القضاء فإنه ينبغي أن يبقى دائما مرتبطا بمبدأ المسؤولية الذي أصبح من المبادئ المسلم بها في مختلف الدول وإخضاع أعمال السلطة القضائية لرقابة المحاكم والاعتراف بشرعية التعويض عن الأضرار الناشئة عنها الذي يعتبر إحدى مظاهر التطور الذي شهدته المسؤولية العامة واليوم يعد إقرار الدستور المغربي في فصله 122 لمبدأ المساءلة الذي جاء في طياته "يحق لكل من تضرر من خطأ قضائي الحصول على تعويض تتحمله الدولة" تكريسا لهذا التطور ودعم دولة الحق والقانون واستكمالا لمبدأ مسؤولية الدولة عن أعمال سلطاتها الثلاث. وبالتالي تمكين المتقاضي من مساءلة السلطة القضائية كأساس تنهض عليه استقلالية القضاء. لكن الإشكال الذي سنحاول معالجة هو فيما يخص بطء المحاكم وطول فترة الفصل في النزاعات المعروضة على أنظارها فهل يعد البطء والتأخر في تسوية النزاعات القضائية وإصدار الأحكام بشأنها خطأ قضائيا تسأل عنه الدولة؟ بالرجوع للقانون المقارن الفرنسي نجد أنه عرف تقدما في هذا المجال الذي بانت معه أحكامه القضائية عجيبة لا تستساغ عندنا ففي تاريخ 28/02/2002 أصدر مجلس الدولة الفرنسي حكما فريدا من نوعه نشرب 2002 p : 299 juillet. Aout Ajda وذلك في طعن قدمه وزير العدل ضد السيد Mugiera طالبا نقض قرار محكمة الاستئناف الإدارية الذي حكم لهذا الأخير بالتعويض عن الضرر الناشئ من انتظاره أكثر من سبع سنوات ونصف حتى فصلت المحكمة الأوربية في دعوى رفعها ضد أحد أشخاص القانون الخاص خلال شهر ماي سنة 1990. لقد استند مجلس الدولة الفرنسي في حكمه إلى الفصل السادس من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية في فقرته الأولى التي تنص على أن "لكل شخص الحق في أن تسمع دعواه هيئة محكمة بصورة عادلة وعلنية خلال مهلة معقولة والفصل الثالث عشر من هذه الاتفاقية الذي اقتضى أن: "لكل شخص تنتهك حقوقه وحرياته التي تكفلها هذه الاتفاقية الحق في مراجعة مجدية أمام محكمة وطنية، حتى ولو كان هذا الانتهاك قد حصل عبر هيئة أثناء ممارستها وظائفها الرسمية". استنادا لهذين الفصلين فإن للمتقاضين الحق في أن يفصل القضاء في قضاياهم خلال مدة معقولة وحتى لو لم ينتج عن تجاهل هذا الموجب أعلى أثر على صحة هذا الحكم القضائي الذي صدر بصورة متأخرة بعد اختتام إجراءات المحاكمة فإن للمتقاضين أيضا الحق في طلب احترام المحكمة لهذا الموجب. وإذا نجم عن مخالفة حق إصدار الحكم في مدة معقولة أضرارا، فإنه يجب أن يحصل هؤلاء المتقاضين على التعويض عن الأضرار التي سببها السير الخاطئ للمرفق العام القضائي. وقد رأى المجلس أن تقديرا للفترة المعقولة لإصدار الحكم يكون خاضعا لمعطيات تجعل هذه الفترة مختلفة بين مراجعة قضائية وأخرى، حيث تؤخذ في احتساب الفترة المعقولة استعمال الوسائل المعطلة للنظر في الدعوى وتصرفاتهم خلال سير المحاكمة, أو مدى اشتمال المراجعة على نقاط قانونية تحتاج إلى دراسة خاصة. باعتماد هذه المعايير تكون محكمة الاستئناف قد أصابت لأن الفترة الفاصلة بين تقديم الدعوى وإصدار الحكم في هذه المراجعة والتي بلغت سبع سنوات وستة أشهر من أجل حل نزاع لا توجد فيه أية صعوبة خاصة, هي فترة طويلة جدا وهذا ما استوجب جبر الأضرار المادية والمعنوية ذات علاقة سببية ومباشرة الناجمة عن مجرد تأخر القضاء في الاعتراف بحق المدعي. وقدرت محكمة استئناف باريس أن السيد Magiera تضرر لطول إجراءات المحاكمة . مما ترتب عنه اضطراب في ممارسة حياته الطبيعية، فحكمت له بمبلغ 000،30 فرنك تعويضا عن هذا الضرر. أقر مجلس الدولة التعويض الذي فرضته المحكمة على وزارة العدل معتبرا أنه خلافا لما تمسك به وزير العدل، فإن التأخر في الفصل خطأ موجب لمسؤولية الدولة عن هذا الضرر. لقد سعى مجلس الدولة في هذه القضية إلى إقناع المحكمة الأوربية لحقوق الإنسان أنه يوجد في القانون الفرنسي مراجعة فاعلة بالمعنى الذي أوجبه الفصل 13 من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان والحريات الإنسانية. وذلك في الحالة التي يتجاهل فيها القاضي الإداري حق المتقاضي بأن تفصل المحكمة في دعواه خلال مدة معقولة كما أراد أن يثبت لمحكمة ستراسبورغ أنه يتقيد بالمبدأ الذي استخلصته هذه المحكمة من خلال الفقرة الأولى من الفصل السادس و الفصل الثالث عشر من الاتفاقية الأوربية لحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية. وقد بدأت هذه المحكمة منذ فترة قصيرة بتطبيق مبدأ وجوب توفر المراجعة الفاعلة لكل متقاض تضرر من تأخر محكمة وطنية في إصدار الحكم. وأول حكم صدر عن هذه المحكمة تطبيقا لهذا المبدأ كان في دعوى Kudla ضد الدولة البولونية بتاريخ 26/10/2000 حيث أصدرت حكما أقرت فيه أن المتقاضي يجب أن يملك القدرة على الاستفادة من مراجعة فاعلة أمام محكمة وطنية تسمح له بالشكوى من التأخر في إصدار الحكم. أما الدعوى الثانية التي فصلت فيها محكمة ستراسبورغ فهي دعوى Lutz ضد الدولة الفرنسية بتاريخ 26/03/2002 حيث أدانت المحكمة الدولة الفرنسية لمخالفتها أحكام الفقرة الأولى من الفصل السادس والفصل الثالث عشر من الاتفاقية الأوربية وقد رفضت محكمة ستراسبورغ لحقوق الإنسان تذرع الدولة الفرنسية بأن محاكمها تسير على خطى اجتهاد Darmont الصادر عن مجلس الدولة الفرنسي بتاريخ 29/12/1978 الذي كان يشترط ارتكاب المحكمة خطأ جسيما يترتب عنه مسؤولية الدولة واشتراط الخطأ الجسيم يجعل هذا المراجعة من الناحية العملية غير نافعة ومجدية. وقد لاحظت المحكمة أيضا أن محكمة الاستئناف الإدارية في باريس عندما أدانت الدولة عن التأخر في إصدار الحكم في دعوى Mugiera فإنها بحثت أيضا عن الخطأ الجسيم الذي ارتكبته المحكمة الإدارية، وهو خلاف ما تنادي به محكمة ستراسبورغ التي لا تشترط خطأ جسيما وإنما مجرد التأخر عن إصدار الحكم ضمن المدة المعقولة حتى بدون خطأ. وقد حاولت الهيئة العامة لمحكمة النقض الفرنسية مجاراة المحكمة الأوربية في قضية أخرى عرفت ب cts bolle-laroche c /Agent judiciaire du trésor بتاريخ 23/02/2001 عندما توسعت في تفسير الخطأ الجسيم بالمعنى الذي يقصده نص الفصل 781 من القانون الجنائي الفرنسي الذي يشترط الخطأ الجسيم لترتيب مسؤولية الدولة عن أعمال القضاة فأقرت المحكمة أنها تجد من الصعوبة إجراء تمييز بين الخطأ الجسيم والخطأ البسيط وأن المسؤولية تترتب عند توفر الخطأ دون الاعتداد بجسامته أو بساطته. وعندما نظرت الجمعية العامة لمجلس الدولة في قضية Magiera وضعت جميع هذه الاعتبارات أمامها وأرادت تكريس المبدأ الذي وضعته المحكمة الأوربية وذلك من أجل تجنب الدولة الفرنسية من المقاضاة أمام هذه المحكمة. لذلك فإن مجلس الدولة لم يكتف بتثبيت الحكم الذي توصلت إليه محكمة استئناف باريس، بل عمد إلى تغيير الأساس القانوني الذي استندت إليه، أي استبعد فكرة الخطأ الجسيم، واكتفى بشرط تأخر القاضي عن إصدار الحكم داخل أجل معقول ليربط هذا التأخر بمسؤولية الدولة عن أعمال السلطة القضائية. وقد أضاف هذا الحكم معطى جديد في بناء المسؤولية دون خطأ بناء على المخاطر التي ما كف القضاء عن تطويرها وتوسيع مجالات تطبيقها. إن هذا الحل الذي انتهى وخلص إليه قضاء أوربا إنما هو حل قديم تضمنته مجموعة المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية والتي اعتمدت في مؤتمر الأممالمتحدة السابع حول منع الجريمة ومعاملة المجرمين المعقود في ميلان في الفترة الممتدة من 26 غشت إلى 6 شتنبر 1985. ووافقت عليها الجمعية العامة في قرارها 40/32 المؤرخ 29 نونبر 1985 وقرارها 40/146 بتاريخ 13 دجنبر 1985 وقد ورد بهذه المبادئ ما نصه "أن الميثاق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يضمن إضافة إلى ذلك الحق في المحاكمة دون تأخير لا مبرر له". لقد كان في استطاعتنا السبق إلى مثل هذا الحل لو كنا حريصين على العدالة, العدالة كمرفق عام لا كسلطة. أما في المغرب فإن القاعدة السائدة بخصوص مسؤولية الدولة عن الأعمال القضائية لحد الشهور الأخيرة هي عدم المسؤولية إلا بصفة استثنائية وفي الحالات التي ينص المشرع عليها صراحة ومع صدور دستور فاتح يوليوز 2011 من خلال فصله 122 تم إقرار مسؤولية الدولة لترشيد عمل القضاء وتعزيز مكانته كمؤتمن على الحقوق والحريات وكأحد دعائم ثقة المتقاضي في المؤسسة القضائية. وبخصوص التأخر والبطء في فض النزاعات وإصدار الأحكام نجد الفصل 120 من الدستور المغربي الذي يتعهد في ديباجته بالتزام احترام حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها، وفي نظرنا أن الحق في المحاكمة العادلة يأتي في مقدمة هذه الحقوق كما أن المغرب ما فتئ يفي بالتزاماته الدولية. ونرى أن من بين التزاماته أن يجعل تشريعه الداخلي يستجيب للمواثيق الدولية التي قبلها وصادق عليها بدون تحفظ ومنها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية فهذا قد دفع الدستور المغربي لفاتح يوليوز 2011 بدسترة الحق في المحاكمة العادلة وبحكم يصدر داخل أجل معقول من خلال الفصل 120 الذي ينص على أن "لكل شخص الحق في محاكمة عادلة وفي حكم يصدر داخل أجل معقول..." وبالتالي جاء هذا الفصل ليكرس المبادىء السامية للعدالة وقيم حقوق الإنسان والمثل العليا من خلال دسترته لكافة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا وفي هذا الصدد قام الدستور الجديد بدسترة سمو المواثيق الدولية كما صادق عليها المغرب ,وأهم هذه الحقوق الذي حاول الدستور تكريسها الحق في المحاكمة العادلة خلال مهلة معقولة. وحينما نتحدث عن هذه الإشكالية بخصوص غموض النص وإن كان الفصل 120 من الدستور قد حدد الحق في المحاكمة العادلة وفي حكم داخل أجل معقول تتفرع عنها أسئلة فرعية بخصوص التعويض عن البطء والتأخر في فض النزاعات وإصدار الأحكام وما ينتج عنه من أضرار مادية ومعنوية التي قد تلحق المتقاضين من جراء طول انتظار الفصل في الدعوى وما يترتب عن ذلك من ضياع الحقوق المادية والمعنوية فهل تسأل الدولة عن التأخر في فض النزاعات المعروضة على المحاكم؟ وعلى أي أساس تقوم هاته المسؤولية؟ فإذا كان القانون الفرنسي أقر التعويض عن البطء في فض النزاعات نأمل من التشريع المغربي أن يخطو نفس خطوات المشرع الفرنسي بتطوير مقتضى النص الدستور وتنزيله التنزيل السليم بإدخال إصلاحات على الإجراءات المسطرية وجعلها أكثر بساطة حتى يتم تسريع البث في القضايا المعروضة على المحاكم بجميع درجاتها وصولا بمحكمة النقض مع تعميم عملية تحديث الولوج لمرفق القضاء وتسهيل هاته العملية. *باحث في قانون المنازعات العمومية