لا أتحدث عن لاعب كرة قرر الاعتزال. أبوتريكة حالة.. نموذج.. أمل لمصر التي كنا نتمناها ونحلم بها. خروجه من المشهد أمر طبيعي جدا.. مصر لم تعد لأمثاله.. مصر «الفكاكة والأوميجا» لا مكان فيها للعقلاء الأنقياء المخلصين.. مصر تغربل نفسها.. شعب «علي الحجار» يطرد شعب «الشرعية». إنه مارق خارج عن الصف.. ماذا يعني أن يكون اللاعب المبدع له موقف.. ماذا يعني أن يكون متعلما مثقفا.. ماذا يعني أن يساند الحق ويقف مع الخير ويعارض الباطل ويكره الشر؟! إنها أمور عقوبتها في المحروسة الآن الإقصاء والتهميش والتغييب في الظلمات.. والقتل! أبوتريكة يملأ الدنيا بحضوره ويشعلها بغيابه. قادم من زمن آخر.. رجل بين أشباه رجال.. صاحب موقف وسط محترفي «الميوعة» وانتظار معرفة اتجاه الريح.. لعب الكرة بثقافة الهواة داخل عالم من الصفقات و «البزنس» والفساد.. قدوة لأولادك وأنت مرتاح البال.. من أصعب الأمور أن ينتقل إنسان من حياة الريف والبساطة إلى دنيا الثراء والمدينة وصخبها ويبقى محتفظا باتزانه النفسي «القديس» -كما يسميه محبوه- فعلها بل وكلما ازداد نجومية ازداد تواضعا وتقربا إلى الله. سر أبوتريكة الحقيقي ليس في موهبته، بل في كونه رمزا لكل المعاني الجميلة التي يفتقدها الناس في «النجوم». النجم الذي يقف مع الناس الذين خرج منهم ويسخر نفسه لهم. أبوتريكة هو أهم لاعب كرة في تاريخ مصر.. كثيرون يقارنون بينه وبين موهبة وفلتة سبقته هو محمود الخطيب. لكن الاختلاف أنه لم يصبح مثل الخطيب جزءا من «منظومة التوازنات». الخطيب يحظى بحب كثيرين غير أنهم يشعرون بمسافة بينه وبينهم.. دخل لعبة «النجوم المصنوعين» الذين يتصرفون بحساب، ويتكلمون بعد دراسة كل الاحتمالات، ويعرفون متى يظهرون ومتى يغيبون حرصا على توهج النجومية. أما أبوتريكة فالجمهور يشعر أنه «واحد منهم». يتصرف مثلهم بتلقائية وينحاز للبسطاء وليس للكبار والمصالح. في بطولة الأمم الإفريقية «غانا 2008» جلب أبوتريكة كعادته الكأس لمصر، لكنه خطف أنظار العالم كله لما أثبت أن عالم الرياضة ليس فقط للمتعة بل للتعبير عن آلام وقضايا البشرية، وأن كرة القدم ليست مجرد واجهة لعرض مواهب اللاعبين كما يعرضون الأسود المروضة في السيرك، لكنها تحمل جانبا إنسانيا. بعد إحرازه هدفا جميلا لم يحتفل مثل باقي اللاعبين ورفع قميصه لتظهر لافتة «تعاطفا مع غزة». نسي تعليمات «الفيفا» بعدم خلط الرياضة بالسياسة. غلبه ضميره وفعل أقل ما يستطيعه لنصرة بشر مستضعفين يتعرضون لحرب إبادة وسط صمت أولي القربى. لما وقعت مذبحة استاد بورسعيد التي راح ضحيتها 74 من زهرة شباب مصر، وبعد عودة فريق الأهلي بطائرة عسكرية إلى القاهرة استقبلهم المشير حسين طنطاوي حاكم البلاد وقتها، وأطلق أمام الطائرة تصريحه غير المسؤول الذي يؤلب المصريين على بعضهم، بمطالبته الناس التعامل بالقوة مع من قاموا بالمذبحة، دون أن يتحدث عن مسؤوليته ودور وزارة الداخلية المشين في الكارثة. رفض أبوتريكة مصافحة المشير. لم تتقبل نفسه وضع يده في يد ملطخة بحكم منصبه بدماء الضحايا الأبرياء. أيقن في قرارة نفسه أن الشرطة تنتقم من جماهير «ألتراس الأهلي» لمشاركتهم الفعالة في ثورة 25 يناير وموقفهم البطولي في حماية ميدان التحرير يوم موقعة «الجمل». وقتها أغضب أبوتريكة رئيس النادي حسن حمدي الحريص على التوازنات و «العلاقات» وعدم إغضاب الكبار. لم يتعلم من سلفه صالح سليم ثقافة «الاستغناء» التي أوصلته لقمة المجد والخلود. أثناء انتخابات رئاسة الجمهورية أصدر رئيس النادي فرمانا بمنع اللاعبين من الإدلاء بآرائهم السياسية، وكأنهم ليسوا مواطنين لهم الحق مثل باقي المصريين في المشاركة بالرأي والصوت والدعاية لمرشحهم المفضل. لم يلتزم «أبوتريكة» بالفرمان.. وجد رئيس النادي ونائبه محمود الخطيب يحرّمان على اللاعبين ما يحللانه لنفسيهما. سخرا قناة النادي للدعاية للفريق أحمد شفيق مرشح «فلول» مبارك. منعوا «أبوتريكة» من الظهور في قناة «مصر 25» التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، فسجل فيديو يعلن فيه تأييده للدكتور محمد مرسي ويمتدح الجماعة ودورها في الحياة العامة. رفض أن يكتم شهادة يعتبرها حقا في وقت يتحدد فيه مستقبل البلاد. أغضب قيادة ناديه مرة أخرى. ذبحوا أبوتريكة بتهمة التضامن مع أهالي شهداء مجزرة بورسعيد، واعتذاره عن عدم المشاركة في مباراة افتتاح الموسم المحلي الماضي. إدارة النادي أوقفته شهرين وغرمته نصف مليون جنيه وحرمته من ارتداء شارة قائد الفريق مدى الحياة!! «مصر الجديدة» تلفظ أبوتريكة.. مبدع الكرة يجب أن يكون على شاكلة من يقف بعد الفوز في المباراة، وأنفاسه تتقطع وحبات العرق تتساقط من وجهه، وهو يهدي الفوز إلى سيادة الرئيس أو سيادة القائد. أبوتريكة لم يفعلها.. ملفه متخم ب «الخروج عن النص» مع الديكتاتورية.. نظام مبارك تقبله على مضض.. كان يعرف خلفيته ومرجعيته.. كان يدرك أنه ليس معهم.. لكن ما باليد حيلة.. قال قائلهم: خذوه يلعب ويرمح على البساط.. فليس هناك غيره يجلب الانتصارات التي تركبها السلطة، وتنسبها لنفسها. المخلوع الذي كان يترك كوارث الوطن والعبارات الغارقة والعمارات المنهارة والقطارات المحترقة ويذهب إلى تدريبات ومباريات المنتخب ليكون في قلب الأضواء، كان يداعب اللاعبين نفرا نفرا ما عدا واحدا: أبوتريكة. كان القديس من قلائل الرياضيين الذين ساندوا ثورة 25 يناير، وظهر في «التحرير» في جمعة الحسم.. وكالعهد به كان في مقدمة صفوف المنددين بمجازر الانقلاب، وأثناء عودة بعثة فريقه إلى مطار القاهرة من رحلة خارجية، قال لأحد الضباط في المطار: تستقبلوننا هنا.. وتقتلون الأبرياء المتظاهرين. كالعادة الدنيا انقلبت عليه، وترددت أنباء عن استدعائه للتحقيق. تمنى الجميع الخلاص منه خاصة بعد الصفعة التي وجهها للحكم العسكري برفضه مصافحة وزير الرياضة الانقلابي في مباراة نهائي أندية إفريقيا مؤخرا. وقعوا عليه غرامة كبيرة، ثم طالب المتشنجون بترحيله من المغرب خلال كأس العالم الأخيرة للأندية ، لأنه ارتكب جريمة التصوير مع فتاة مغربية تحمل شارة «رابعة»! أبوتريكة في عز مجده، وهداف فريقه والمنتخب الوطني، ويزداد ألقا مع الزمن.. رحل لأن بطن مصر العسكر تلفظه. لكن يكفيه الحب الجارف الذي يحظى به في العالمين. «أبوتريكة حبيبي وقرة عيني» كلمة كتبها بحقه الداعية الشهير محمد العريفي. محمد مرسي في السجن.. ومحمد أبوتريكة خارج الملعب.. وتسلم الأيادي يا وطن العار!