قال مدير تحرير مجلة «شبيغل» الألمانية لبشار الأسد في بداية مقابلة أجراها معه قبل أسبوعين: كيف يمكنك العيش مع هذه «الجرائم»؟ ألا تحس بالذنب؟ وليس مهما بماذا وكيف أجاب الأسد، فقد كان وكل شركة العلاقات العامة التي اتصلت له بكبار المجلات والصحف الغربية، ووكالات الأنباء، مجرد القبول وظهور الصورة على صفحة الغلاف أو على الشاشة في وقت الذروة، لكي يقال إن شخصه الكريم ما يزال مقبولا رغم الأهوال التي ارتكبها مع الروس والإيرانيين وأتباعهم ضد شعبه وبلاده. لقد كان ينبغي توجيه السؤال - وإن بمعنى وسياق آخر - إلى الشعوب العربية: كيف تحملت وتتحمل الارتكابات والمذابح والاستلابات من الحكام الخالدين، ومن الإيرانيين والإسرائيليين والروس والأميركيين... إلخ؟ نعم، كيف تتشرذم المجتمعات، وتتفكك الدول، ويهلك الأطفال والشيوخ والنساء إما بقذائف وطائرات وكيماويات بشار الأسد أو إسرائيل أو حزب الله أو القذافي أو الرئيس السوداني أو الجهاديين أو هذا الحاكم العراقي أو ذاك، ولا يظنن أحد أن «القتل» يحصل فقط من قذائف الطائرات أو الدبابات أو خلال المظاهرات؛ بل إنه قد يحصل عندما يهرب عشرات الألوف من مكان إلى مكان فيسقطون في البر أو البحر، فيصبح فيهم التعبير المجازي الذي قيل عن المسيح عليه السلام إنه الذي وطئ الموت بالموت! إنه الهول الأعظم بالفعل، الذي يعاني منه العرب جميعا منذ الاستعمارات البريطانية والفرنسية والإيطالية والإسبانية في النصف الأول من القرن العشرين، وإلى الاجتياحات الإسرائيلية والإيرانية والأميركية والروسية في النصف الثاني من القرن العشرين وإلى اليوم! وليت الأمر اقتصر على الغرباء والأجانب والطامحين من الخارج والجوار. لقد تجاوزت الكوارث غير الطبيعية الأعداء الخارجيين إلى سادات الداخل من حكامنا الجمهوريين الخالدين مثل القذافي والأسدين (ما كفانا أسد واحد!) والنميري وغيرهم، وتنظيماتنا المسلحة التي كلفت نفسها، وما كلفناها نحن بالطبع، أعباء مواجهة الأعداء الصهاينة والأميركان، فانتهى بها هذا التحرير العظيم إلى احتلال مدننا واغتيال الناس وقتلهم وشرذمة الدول والمجتمعات، وتارة من أجل «مواجهة العدو» (ومنهم بالطبع أعداء الداخل، أي نحن العرب الذين لا يريدون القتل أو المشاركة فيه!). وطورا من أجل التأديب وتصحيح أدياننا وأخلاقنا! على كل هذه الاستهدافات والاستنزافات ثارت المملكة العربية السعودية، وثار وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل. وهذه الثورة ليست جديدة، بل تمضي لنحو العقدين، وتتصل بالضلال في تحديد الأعداء أو الأصدقاء على حد سواء. فقد رأى الفيصل منذ زمن طويل أن النزاع العراقي - الإيراني، ثم احتلال العراق للكويت، كانا النكسة الثالثة بعد نكبتي فلسطين وكامب ديفيد! وقد دأب منذ التسعينات من القرن الماضي على التنبيه والتحذير، وأنه إن لم نتمكن من الصمود، فيكون علينا في الحد الأدنى حفظا للبلاد ولمستقبل الأجيال، أن لا تدفعنا الخيبة أو الخوف إلى عقد اتفاقيات مخزية تكون قيودا في الأعناق إلى مدة طويلة. وكان هذا رأيه عندما انعقدت اتفاقية أوسلو، رغم أنه رأى فيها جوانب إيجابية. وعندما وقعت أحداث عام 2001 اعتبرها النكسة الرابعة وقال: «كنا نقول للأميركيين إن تفاقم المشكلات دونما حلول، سيؤدي في المدى المتوسط إلى تزايد التشدد والتطرف». وها هو الأمر قد وقع، وصاروا يعدوننا خصومهم، مع أننا الأكثر تضررا من هذا الاستنزاف الذي كان آتيا من جانب الأعداء. وهو الآن يأتي من ثلاث جهات: أبناؤنا الذين يريدون إقامة الخلافة العالمية من جديد، وإخواننا وجيراننا الذين يريدون الإفادة من ضعفنا، وحلفاؤنا الذين يظنون أننا قد غدرنا بهم عندما هوجموا باسم الإسلام ومن جانب شبان ينتسبون إلينا. إنما بربكم قولوا لي ما العلاقة بين قتل الناس بنيويورك وإقامة الخلافة؟ وما العلاقة بين احتلال غزة وبيروت وتحرير فلسطين؟! وعندما مضى الأمير الفيصل لتمثيل المملكة في مؤتمر القمة العربية بمدينة سرت الليبية في ربيع عام 2010 نيابة عن الملك عبد الله بن عبد العزيز، كان السيل - كما يقال - قد بلغ الزبى، كان الإيرانيون يحاولون عقد شراكتهم للمرة الثانية مع الأميركيين. في المرة الأولى دخلوا معا إلى أفغانستان والعراق. وهذه المرة (2010) كان الأميركيون يريدون الانسحاب من العراق واستخلافهم هناك من خلال المالكي. وكانوا يعلنون رضاهم عن بشار الأسد بإعادة السفير الأميركي إلى دمشق. وكان جيفري فيلتمان يتفاوض من أجل ترتيب حكومة لحزب الله بلبنان يترأسها صديقه نجيب ميقاتي. أما من جهة فلسطين فكانت إسرائيل ماضية في زيادة مستوطناتها وفي اعتداد المفاوضات مع الفلسطينيين حسب القرارات الدولية، غير مقبولة. في حين كان أبو مازن منهمكا في تدبير المرتبات لموظفي سلطته المحتلة؛ بينما كانت حماس منهمكة في تجارة الأنفاق، وفي التحرش بالسلطة المصرية لصالح إيران ومحور المقاومة العظيم! وزاد الطين بلة أنه وسط هذه الظروف المفزعة؛ فإن الأمين العام للجامعة العربية آنذاك عمرو موسى، اقترح على قمة سرت حديثا استراتيجيا مع دول الجوار، أي إيران وتركيا! هناك فاض الكيل بالوزير السعودي: وتحدث طويلا عن حالة الخواء الاستراتيجي التي يعاني منها العرب، والتي لا تسمح بدخول مفاوضات تتسم بالندية والجدية مع أي أحد. لقد كانت عندنا مشكلة فلسطين، وعندنا الآن مشكلات العراق ولبنان واليمن، وكلها بسبب التدخل الخارجي. هناك اختلالات في العلائق مع المجتمع الدولي، وهناك اختلالات بالعلائق مع الجوار، وهناك اختلالات بالدواخل العربية بين الفئات الشعبية. ولا بد من سد الخلل بشكل أو بآخر لكي تصبح المحادثات والمفاوضات مجدية! ثم انفجرت حركات التغيير العربية، ومن الداخل أحيانا، ومن الخارج أحيانا أخرى. وتكاثرت الظباء على خراش. فتدخلت المملكة ومعها دول الخليج من أجل استقرار البحرين. وتدخلت من أجل فرض حل في اليمن يحول دون العنف وسفك الدم. وتدخلت دول خليجية لمساعدة الليبيين ضد عنف القذافي. وتدخل السعوديون ودول خليجية أخرى لإعانة الشعب السوري في الدفاع عن نفسه في وجه العدوان الأسدي والإيراني والروسي! وعندما أسقط المصريون حكم «الإخوان»، سارعت دول خليجية على رأسها السعودية لإعانة مصر في الوقوف على قدميها اقتصاديا، ومنع الأميركيين من التدخل في شؤونها. بيد أن هذا كله ما كان أو ما عاد كافيا أمام أهوال السياسات الدولية في المنطقة. فالروس معتدون علنا على الشعب السوري وبحجج سخيفة، ساعة لأنهم يخشون الأصولية، وساعة لأن عندهم ثارات على الأميركان، وساعة لأنهم مهتمون بالغاز على ساحل البحر المتوسط! أما الأميركيون فالمشكلة معهم ليس أنهم ما تدخلوا عسكريا هنا أو هناك: بل لأنهم يتصرفون ببلداننا وأرضنا كأنما هم يملكونها. وساعة مع روسيا، وساعة أخرى مع إيران، وساعة ثالثة مع إسرائيل! لذلك كان لا بد لهذا الغضب السعودي وبعد طول صبر بل تردد أحيانا بسبب ضخامة التحديات، كان لا بد أن يتحول إلى سياسات، وهي سياسات بناءة لأنها تركز على تصحيح آليات عمل النظام العالمي. وهي آليات قديمة ربما كانت مفيدة في الحرب الباردة من أجل التوازن. لكنها ما عادت كذلك اليوم. والعالم كله له مصلحة بهذا التصحيح. لقد طال زمن الاستنزاف، وطالت أزمنة القتل من جانب القريب والبعيد، بحيث داخل الإحباط كلا منا، وما عاد أحد يجرؤ على الأمل أو التفاؤل. وهذا سبب سؤال الكثيرين: وماذا بعد؟ ما بعد إلا الخير، فلنخرج من الأميركيين والروس وغيرهم وغيرهم، وسنكون أفضل بما لا يقاس من الحالة التي نتردى فيها منذ عام 1980. وإذا كان لا بد من الموت، فلماذا لا نموت واقفين؟!