يعود استعمال مصطلح السلفية للإمام أحمد بن حنبل عندما احتجَّ في فتنة خلق القرآن قائلاً: "لقد روي عن غير واحد من سلفنا أنّهم كانوا يقولون القرآن... كلام الله غير مخلوق، وهو الذي أذهب إليه"، وهو ما تطوّر في القرون التالية إلى اعتبار السلف أصحاب الوصاية في تفسير النصوص في العقيدة والحياة، وقد كان ذلك بمثابة الموقف المضاد للخلافات السياسيَّة المفتعلة في الأمور العقدية وإرادة الإنسان والقدر والإمامة، وتُعبِّر أيْضًا عن الرفض التام لنتائج الانفتاح الفلسفي والعلمي في ذلك العصر من خلال دعوة الالتزام التام بتفسيرات السلف في شتَّى أمور الحياة. أدي ذلك لاحقًا إلى ظهور عقل جمعي يتكئ على السلف والدين في مقاومة التغيير بإيجابياته وسلبياته وقد واجه انقسامات في صفوفه في القرون الوسطى من التاريخ الإسلامي، لكنه عاد للواجهة مرة أخرى في الجزيرة العربيَّة نتيجة عوامل دينيَّة وسياسيَّة واقتصاديَّة، وقد كان للتطورات الكبرى في العصر الحديث الدور الأهم في بروزه اللافت في اعتراضاته الشديدة على التغيير والتحديث، الذي وصل في بعض الفترات إلى إعلان الجهاد ضد الأشياء المستجدَّة كما حدث بعد توحيد الدولة، عندما حملوا السلاح ضد استخدام اللا سلكي والبرق والاستعانة بالأجانب.. كانت المواجهة التي أدت إلى هزيمة ذلك التوجُّه عسكريًا، لكنه انتصر فكريًّا في مواجهة عجلة التطوير عندما أظهر علماء الدين في الدَّوْلة ممانعة في أن يخرجوا بفتوى صريحة تجيز استخدامات التقنيات الحديثة، حين قالوا: إنها مسألة حادثة في آخر الزمان، ولم يتحدث عنها أهل العلم وأنّهم لا يقولون على الله ورسوله ما لا يعلمون. شكَّلت تلك الممانعة في الفتوى حجر الزاوية في سيطرة المنهج السلفي الشمولي، الذي لا يعني على وجه الضرورة الدين المحض في مختلف تصوراته، أو ما يراه السلف الصالح في مسائل العقيدة، ولكن يعبِّر عن موقف اجتماعي مأزوم لدرجة عالية ضد الأمور المحدثة، فيه دعوة للتقيد بنماذج الأمس والتقاليد، ورفض للمتغيِّرات الجديدة من خلال إصدار فتاوى مؤطرة بالخطاب الديني، قد تخلّوا في بعض الأحيان من النص، لكن تتفق على رفض جميع المستحدثات والتطوُّرات الكبرى والصغرى في القرن الماضي.. حظي هذا المنهج الماضوي برعاية رسمية في بعض المراحل، ولحسن الحظ أن الفتاوى الرسمية التي صدرت خلال القرن الماضي تحكي قصة سيطرة العقل السلفي الاجتماعي على المجتمع، وكان المفتي العام يحظى بسلطة مطلقه في مخاطبة كل الجهات، ولا يتسع حيز هذا المقال لسرد العديد من الأمثلة، ومنها على سبيل المثال أن المفتي كان يستخدم أسلوب الفتاوى في مخاطبة المرور لإيقاف سير السيَّارات أثناء أداء الصلوات، ومخاطبة المسئولين لمنع البعثات إلى الخارج. لم تخل العلاقة الإستراتيجية بين السلطة السياسيَّة والسلطة الدينيَّة من صراع خفي، يخرج إلى السطح في بعض الأحيان، مثلما حدث في قضايا تعليم المرأة وبدء البث التلفزيوني وغيرها، لكن ذلك لا يعني أن ثمة مصالح مشتركة بينهما، هدفها الاستقرار السياسي، والسيطرة الدينيَّة والاجتماعيَّة، ومنع الخروج الديني على الدولة، وكان المفتي في مراحل الدَّوْلة بمثابة صمام الأمان الذي يتحكم بالعقل الاجتماعي السلفي الغاضب من سرعة وتيرة التغيير، وكان لعدم تعيين مفتٍ عام في فترة السبعينات الميلادية أثره الواضح.. فقد تمرَّد العقل السلفي المحافظ جدًا والغاضب، وأنكر ذلك بمباركة من بعض العلماء المتعصبين في حركة جهيمان الشهيرة في مظاهر سلفية متشدِّدة ومسلحة، وقد كانت تلك الكارثة سببًا لإعادة المياه إلى مجاريها بين السلطة السياسيَّة والسلطة الدينية، عندما تَمَّ تعيين مفتٍ عام جديد يمسك العصا من المنتصف بين قادة التغيير الجدد وبين جبهة مقاومته الممثِّلة في الفكر السلفي المحافظ. في تلك الفترة التي غاب عنها المفتي العام، دخل إلى المجتمع وافد جديد، وهو الإخوان المسلمون، وقد أحدثوا انقلابًا جذريًّا في بعض المواقف السلفية الاجتماعيَّة المتشدِّدة، نتج عنه بعض التصالح مع المتغيِّرات الجديدة، لكن الوافد الجديد نجح في نهاية الأمر في تفكيك العقل السلفي المركزي، وخروج خطاب سلفي حركي متعدّد المرجعيات والأطياف، تخلص تدريجيًّا من موقف مقاومة التغيير، وأصبح يسعى إلى قيادة التغيير حسب توجهاته والايدولوجية. في نهاية هذا الإيجاز استطيع القول: إن الفكر السلفي الشمولي والتقليدي المتشدِّد والرافض للمستجدّات الجديدة في مختلف شؤون الحياة وصل إلى مرحلة أقل تأثيرًا، وربما تلاشت مقاومته للتغيير، ولم يعد ذا تأثير على الحياة العامَّة إلا فيما ندر، وحلّ بديلاً عنه في التأثير الاجتماعي تيارات الإسلام السياسي المتصالحة بعضها نوعًا ما مع منتجات الحداثة كالديموقراطية والتقنيات الحديثة والإعلام، لكنها تسعى جاهدة في أن يكون التغيير على نهجها ووفق مبادئها ومصطلحاتها.