كان مشهد عشرات الضحايا الممددين في مستشفى رابعة العدوية الميداني أو المتساقطين في الشوارع الجانبية لواجهة الحرس الجمهوري ومئات الجرحى قنبلة مروعة لكامل المسار المصري منذ ثورة 25 يناير, ومع فظاعة الاجتياح العسكري الذي فشل في إنهاء اعتصام الميادين فقد قدم أيضا صورة خطيرة لما يعنيه التصعيد المسلح الذي بدأه الفريق السيسي بزج القوات المسلحة المصرية في قلب المواجهات ومبادرته بهذا التصعيد الخطير قبل أن يقع ما يَخشى منه كل توجه وطني راشد وكل مراقب محب لمصر. " الجهة التي كان من المنتظر أن تضبط النفس هي من بدأت بتفجير المشهد عسكريا في جموع مدنية من الشباب والنساء والأطفال المصريين, مما عزز المخاوف بالانجرار إلى حالة مواجهة مسلحة " وما نعنيه هو أن القطاع العسكري الرسمي بدأ بحلقة العنف القوية في حين كان المراقب يخشى أن تتحول نتائج قمع الإسلاميين إلى انخراط في تشكيل جماعات مسلحة ورفض مشروع الحركة الإسلامية المدني كليا أو عودة الانضمام لحركة أيمن الظواهري الجهادية المصرية. وهنا المفارقة أن الجهة المنتظر أن تضبط النفس هي من بدأت بتفجير المشهد عسكريا في جموع مدنية من الشباب والنساء والأطفال المصريين, وبالتالي عزز المخاوف من انجرار المشهد المصري إلى حالة مواجهة مسلحة هيمنت على الوضع الوطني الذي تَكسّب منها نظام الرئيس مبارك عبر الدعم السياسي المطلق من الغرب وعبر تبريره للقمع الأمني والاستبداد السياسي الذي عاشته مصر طوال فترته. ولا نعرف إن كانت هذه المبادأة المسلحة من الفريق السيسي لها علاقة مباشرة بخطة إستراتيجية تخلق أرضية لما بعده من الانقلاب الكامل على المشهد السياسي وكل معطيات الحياة المدنية بعد نجاح ثورة 25 يناير, لكن السيناريو التفصيلي الذي وقع بالفعل يعزز هذه المخاوف, ويعزز قاعدة ربط الدعم الغربي باستدعاء التطرف المسلح وخلق أرضيته لضمان فرض منتجات الانقلاب السياسي بمسمى مدني يُخفي من ورائه نموذجا بوليسيا قمعيا. وهنا نحتاج أن نرتب وفقا لسياق هذا المشهد ومعطياته الضخمة السؤال التالي: أين هي القضية المركزية وأين هي القضايا الأٌقل أو الثانوية؟ فلم تعد قضية الصراع مع الرئيس محمد مرسي وفقا لهذه التطورات قضية مركزية باعتبار أن الرئيس مرسي كان وفريقه وتياره الشعبي ملتزما بخيار التغيير المدني وتحييد الجيش والقبول بوسائط الانتقال السياسي, وهذا لا يُلغي أحقية الصراع مع مؤيديه سياسيا وفق هذه القواعد التي أنتجتها 25 يناير. ولقد سجل الأستاذ عبد الغفار شكر أحد قيادات اليسار التاريخية في مصر وعضو قيادي في جبهة الإنقاذ المصرية في اتصال مع قناة الجزيرة حقيقة مهمة في هذا السياق وهي قوله إن الرئيس مرسي لم يكن رئيسا دكتاتورا ولم يُسجل في عهده اعتقال رمز سياسي ولم تغلق صحيفة أو وسيلة إعلام, لكنه أعاد التذكير بخلافه مع مرسي وفشله السياسي بحسب رؤيته كمعارض. " كل مسارات الانقلاب صبت في اتجاه عودة الدولة الأمنية بوسائط الدولة العميقة لنظام الرئيس مبارك وبصورة دولة مدنية جديدة يبنيها الجيش ويهدمها غداً " هنا نعود للتأسيس إلى ترتيب القضية المركزية وهي الانقلاب على المشروع السياسي للثورة ونقل الحالة السياسية لما ذكرناه في المقدمة من التمهيد لوضعية مشابهة بصورة كبيرة لعهد الرئيس مبارك، وليس القضية هل فشل الإخوان أم لم يفشلوا، فكثير من تجارب الأحزاب السياسية تفشل ثم تعود فتنجح وتستفيد من تجربتها, ولكن الدولة المدنية قائمة بشروطها الأصلية والحرية السياسية الكبرى وضمان التصويت الشفّاف، وهو ما صنعته ثورة يناير وليس مجرد صندوق وانتخاب تدعو له الدولة العميقة، فهذا كان موجوداً في عهد الرئيس مبارك وفي ظل أقسى معاناة حقوقية سياسية عاشها المواطن المصري, الذي استيقظ بعد انتخاب أول رئيس على إعلام يشتمه ولا ينتقده فقط ويمسي على طعنه والسخرية منه, وفجأة تحول هذا الإعلام بعد الانقلاب إلى مبرر لاعتقالات سياسية ضخمة وإغلاق وسائل إعلام ومطاردة إعلاميين وقفوا ضد الانقلاب, وذات هذا الإعلام اصطف مع عملية الحرس الجمهوري في سلاحه ضد المدنيين, هنا تبرز لنا القضية المركزية التي تعيشها مصر. والإشكال الرئيسي أن كل مسارات الانقلاب صبت في هذا الاتجاه أي عودة الدولة الأمنية بوسائط الدولة العميقة لنظام الرئيس مبارك وبصورة دولة مدنية جديدة يبنيها الجيش ويهدمها غداً, إن الحملة الإعلامية والسياسية التي أُطلقت على منتسبي التيار الإسلامي ثم اعتقال قادتهم, وتشويه مواقفهم ومحاصرة حراكهم وخنقهم إعلاميا, تم عبر إطلاق الفريق السيسي لأجهزة دولة الرئيس مبارك فعليا، واستيقظ الشعب على عودة مباحث أمن الدولة خلال ساعات, بل داهمت السياسيين ومنهم منزل خيرت الشاطر في غرفة نومه وصوّرت الاعتقال برعاية مؤسسة الانقلاب, وقد أعلنت الصحافة الموالية للعسكر أن الفريق السيسي نسق بالكلية قبل إعلان الانقلاب مع الأجهزة الأمنية. ففي حين أعلن أنه لن يتدخل سياسيا صادر كامل العملية السياسية قبله وحين أعلن في بيانه أنه لا يستهدف التيار الإسلامي كانت مباحث أمن الدولة تعتقل النشطاء السياسيين المناوئين للانقلاب, وحين رسم قلبا على المتظاهرين في ميدان التحرير عبر الطيران الحربي ارتكبت بعدها بساعات مجزرة الحرس الجمهوري. مع كل ما تقدم فإن ما يُطرح على التيار الإسلامي والوطني الرافض للانقلاب ليس مشروعا سياسيا وفق برنامج ثورة 25 يناير، بل هو هدنة بلا ضمانات، فالذي يقدم الضمانات هو من يهدمها والكوادر السياسية الحليفة معه كتمرد والمولاة في جبهة الإنقاذ هي من تعلن مواقف مروعة لحق الإسلاميين في الحياة السياسية, فيما يشبه ردة مدنية حقوقية تورطت فيها أسماء كبيرة في مشهد الفكر الثقافي في مصر, فضلاً عن كل ما نُشر من التنسيق بين الفريق السيسي وجبهة الإنقاذ وحركة تمرد والقيادات الكنسية ونظام الرئيس مبارك. " لا بد أن تدرك كل القوى الوطنية المصرية أن مواجهة عودة نظام الرئيس مبارك والسلطات العسكرية هي من مصلحة مصر القومية والجيش وبناء الدولة المدنية " كل ذلك يعطينا مؤشرا واضحا لعدم ثقة حركة الرفض المدني في الانقلاب وعدم التجاوب مع ما يطرحه الفريق السيسي الذي انهارت فيه الثقة تماماً, فالقضية الآن ليست تصلّب حركة الرفض المدني بكل توجهاتها, لكنها في غياب أي مشروع إنقاذ وطني تقدمه جهات مؤتمنة لمن أُنقلب عليه وفُتك بأتباعه وهو صاحب الاستحقاق الانتخابي في ثلاثة مسارات رئاسية وتشريعية ودستورية لتحقيق تسوية وطنية تضمن أولاً حق إدارة الدولة ومؤسساتها دون عصى توضع في الدولاب أو يُصنع بها انقلاب جديد, أو تُستدرج حركة الرفض المدني من ميدان الاحتجاج السلمي إلى المشانق الجسدية والسياسية. إن هناك ضرورة أن تدرك كل القوى الوطنية المصرية أن مواجهة عودة نظام الرئيس مبارك والسلطات العسكرية هي من مصلحة مصر القومية والجيش وتوجهات بناء الدولة المدنية التي لو اختلفوا على مرجعيتها فإنهم يتوافقون على سلوكها مع المواطن وإن تصارعوا سياسيا, وهذا ما لا يقدمه الاعتقال الأمني للحياة السياسية. ومع رجائنا أن يتم إنجاز خيار توافقي وأن لا يُسفك المزيد من الدماء من كل الأطراف, فإن المدخل لذلك لن يكون بعودة زوار الفجر ولا رأسمالية الحزب الوطني المتوحشة, فإن العدالة الاجتماعية نقيض لمشروعهم وللهيمنة العسكرية.