الشفافية أمر ضروري ما دام المجتمع حلقات مترابطة ومصالح متشابكة، وهناك من يجافي الشفافية مجافاته لألد أعدائه، وإن أفصح فيكون بقدر موزون بميزان من ذهب. وبالقطع ليس مطلوبا من شخص أن يكون شفافاً في شئون حياته الخاصة فتلك حياته، أما فيما يتعلق بالآخرين فلابد من الالتزام بالشفافية تماشياً مع تقنينات محددة في النظم واللوائح التي يجب أن تراعى في البلاد. فمثلاً، نجد أن هناك التزامات محددة على الشركات المساهمة أن تتبعها لتحقيق الشفافية بأن تفصح عن قوائمها المالية وأن تنشر تقريراً لمجلس الإدارة، وفي مثال آخر تصرّ وزارة التجارة أن يفصح أصحاب المحلات عن أسعار بضائعهم إبتداء. ولذلك نجد أن هيئة السوق المالية تغرم الشركات المدرجة في السوق إذا أخلت بقواعد الافصاح كأن تتأخر إحداها بإخطار الهيئة بتغيير أحد التنفيذيين الكبار أو في الاعلان عن أية معلومة جوهرية قد تؤثر على سعر الورقة المالية المصدرة من قبل الشركة المدرجة في السوق. ولكن ماذا عن الافصاح من قبل الجهات الرسمية؟ ولدي نقطتان: الأولى تتعلق بمؤسسات عامة لها شخصية اعتبارية وعلى صلة وثيقة بمئات الآلاف من المواطنين، مثل التقاعد والتأمينات، فلا أفهم ما المغزى بأن لا تعلن قوائمها المالية وتقارير سنوية أسوة بالشركات المساهمة العامة؛ فأداء الصندوقين شأن عام! ولا أفهم كذلك ما الذي يمنع من أن تعلن القوائم المالية لمؤسسات عامة تمارس وظائف اقتصادية وتقدم خدماتها للعموم مثل الخطوط السعودية والموانئ والسكك الحديدية على سبيل المثال لا الحصر، فهذه المؤسسات ليست وزارات سيادية لها حصانة وتخضع معلوماتها للسرية صيانة لأمن البلاد ومصالحها العليا. أما النقطة الثانية فتتعلق بإفصاح الوزارات عن بيانات اقتصادية واجتماعية في أوقات محددة؛ فهذا أمر حرج الاهمية ليتعرف المهتمون على أوضاع الاقتصاد السعودي من حيث التوسع والتباطؤ والانكماش والتغيير في القطاعات الرئيسية مثل الصناعة البترولية والتحويلية غير النفطية والزراعة والقطاع المالي ربع سنوياً ولن تكتمل الصورة إلا بإصدار بيانات البطالة كذلك ربع سنوياً على الأقل. وما دمنا نتحدث ليل نهار عن «الاسكان» فلابد من الاعلان عن احصاءات نشاط بناء المساكن الجديدة وعدد تراخيص البناء الصادرة موزعة جغرافياً. القائمة طويلة مما يمكن أن يفصح عنه ولن أسترسل أكثر. القصد أن «الشفافية» حتى بمعناها غير-السياسي ليست كلمة مائعة أو مطاطة بل محددة، وتتجسد في الافصاح بصورة محددة عن أمور محددة في أوقات محددة. إذاً، فالشفافية المقننة والملزمة تتحقق بأن يصبح لدينا «روزنامة اقتصادية» تحدد تواريخ صدور تقارير أو معلومات أو بيانات بعينها عن الشأن الاقتصادي من قبل جهات حكومية بعينها. وهذا ليس بدعاً بل ان جميع الاقتصادات المتقدمة تتبع هذا النهج من باب طمأنة الأسواق وحتى لا يصبح التحليل الاقتصادي وبالتالي سلوك الأسواق عشوائياً. ولنأخذ مثالاً: ففي الولاياتالمتحدة من المتوقع أن يعلن يوم الاثنين القادم عن مؤشرات مبيعات التجزئة لشهر أبريل ويوم الثلاثاء عن مؤشر أسعار الواردات ويوم الأربعاء عن مؤشر أسعار المنتجين ويوم الخميس عن مؤشر أسعار المستهلك (التضخم). وهكذا، تترقب الأسواق المؤشرات الرسمية وتقارنها بما مضى وبما كان متوقعاً وبناء على ذلك تبنى قرارات الاستثمار.