منذ بدايات عاصفة «الثورات» والربيع العربي تعاظم دور «الشيخ السياسي» الذي يمثله طبقة من الدعاة الإسلاميين الأقرب للسياسة منهم إلى العلم الشرعي، وهي ظاهرة تستحق الدراسة لأنها حديثة حيث لم يعرف التاريخ الإسلامي هذا النمط من «الدعاة» إلا عند بعض الفرق التي لم تمثل المدارس الرئيسية للإسلام السني بمذاهبه وتيارات الفكرية، وحتى تلك الفرق كالإسماعيلية كان هؤلاء الدعاة سياسيين بامتياز بسبب لعبهم أدوارا مباشرة في التحولات السياسية كمقاتلين وقادة معارك، وهو الأمر الذي كان حتى العصر الحديث وظهور حركات الإسلام السياسي المتأثرة بتكنيكات الحركات الثورية ذات الطابع اليساري ولاحقا بتجربة الثورة الإيرانية. هذا الانقسام والفجوة بين العلماء والفقهاء المتحدرين من مدارس سنية تقليدية وبين طبقة الدعاة السياسيين كان سببا لتوترات وخلافات شرعية طويلة كجزء من معركة الاستيلاء على شرعية «الجماهير»، كما أن الأزمات السياسية الكبرى كانت تقطع حالة الهدنة بين الطرفين إلى أن استطاع تيار «الدعاة» تجسير تلك الهوة بتسليمه للشرعية الفقهية للتقليديين وتسلمه حقائب السياسة بحجة أن «العلماء لا يفقهون الواقع» وهي معركة دارت رحاها منذ منتصف الثمانينات وحتى الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) واتخذت أشكالا كثيرة لا يتسع المقال لرصدها. اليوم نعود للمربع الأول ولكن بشكل أكثر سلبية بعد سنوات من تراجع طبقة العلماء الكبار وضمور الجسد الفقهي وبالتالي تضخم دور الداعية السياسي الذي تحول في كثير من المواقع إلى «نجم» وسوبر ستار لا يقل شهرة ولا أضواء عن مشاهير السياسة والأعمال والفن. هذه النجومية ليست مرتبطة بالمضمون والمحتوى وإنما بالقدرة على كسب الشارع وامتلاك قلب الجماهير بالفتاوى والتصريحات التي تتصل بالوقائع السياسية المتجددة وأحيانا يتم ذلك بشكل مرتبك وسريع لأن جزءا من متطلبات السوبر ستار هو الإيقاع السريع ومواكبة الحدث وهو الأمر الذي لا يتناسب أبدا مع تركيبة «الفتوى» أو الموقف الشرعي المبني على استقصاء الأدلة والبحث والنظر، وهو ما أفرز لنا سلسلة من الفتاوى والفتاوى المضادة والمراجعات والنكوص عن المواقف في قضايا مصيرية مرتبطة بالدماء كادعاء الجهاد أو إباحة الدماء أو التكفير أو التبرير للإرهاب ولك أن تتخيل ما يمكن لهذه المفارقة أن تكبد المجتمعات المأزومة اقتصاديا واجتماعيا من خسائر في الأرواح والممتلكات. وكما دخل الدعاة السياسيون خط الثورات من أوسع الأبواب بحكم أن موجة الاحتجاجات التي عمت العالم العربي والإسلامي قد ألقت بظلالها على صعود الإسلام السياسي، فها هو اليوم نظام الأسد البعثي يخلع بدلة القومية الملطخة بالدم السوري ويلبس عباءة الفقيه متوسلا بمجلس الإفتاء الأعلى في سوريا المفرّغ من العلماء والمملوء بالموالين له أن يقوم بدوره ليبلغ التصعيد ذروته بعد فتوى الحسون مفتي سوريا بأن الجهاد مع النظام السوري هو جهاد في سبيل الله! بالطبع ما زالت ردود الفعل تتوالى وهناك مطالبات «جماهيرية» بفتاوى مضادة من شأنها أن تنقل «الثورة السورية» إلى منعطف خطر وجديد بعد أن يتم «تديين» الصراع هناك وتحويله إلى حرب أهلية مقنعة بالجهاد بما يحمله من محفّزات روحية ستأخذ طريقها إلى عقول الأجيال الغاضبة وربما تنتج لنا منطقة توتر عنفي ستتجاوز آثارها مرحلة ما بعد أفغانستان والبوسنة وحتى رضّات تنظيم القاعدة التي ستدخل على الخط. الوضع خطر جدا، وإذا كان المجتمع الدولي والولايات المتحدة يعتذران عن تدخل فاعل وتأثير مباشر على خط الأزمة في سوريا بالتخوف من سيطرة المجموعات الجهادية على الثورة هناك في حين أن تلك العناصر الأجنبية على خط الأزمة لا تشكل إلا أقل من 3% من عناصر الجيش الحر والمجموعات السورية الخالصة؛ فإن الكارثة المحدقة بالحالة السورية هي السقوط في فخ «الأسد» بعد أن قام برفع المصاحف عبر فتوى الحسون الذي وإن بدت مضحكة ومخيبة للآمال لمن يتابعها في الخارج؛ فإن تأثيراتها على الداخل السوري من شأنها أن تحسم خيارات شرائح كثيرة من المجتمع السوري المتردد الذي كان يقف على الحياد في معركة بين النظام والثوار، هؤلاء ربما يشكلون نسبة لا يستهان بها في المدن الرئيسية وفي سوريي المهجر. إن جزءا من استراتيجيات التنظيمات المسلّحة و«القاعدة» المثال الأبرز هنا هو تجاوزها للأطر الجغرافية سياسيا، فلا هي تعترف بالمواثيق الدولية فضلا عن كفرها البواح بالدولة القُطْرية الحديثة التي تقوم على مبدأ المواطنة وليس الفرز بمسطرة عقائدية وبالتالي فإن الحدود السيوجغرافية لا تعني لها شيئا ومن هنا؛ فإن مساجلة النظام البعثي هناك في دعوى الجهاد بفتاوى مضادة في نفس الاتجاه ستنتج موجة كبيرة من الهجرات الجماعية للمقاتلين من جميع أنحاء العالم الإسلامي، كما أنها تشي بتضخم دور «القاعدة» في دول الجوار، وهذا ما يجعل المتابع للأوضاع أن يلحظ حالة الانتعاش للسلفية الجهادية في الأردن واصطفاف «القاعدة» في لبنان والتحول إلى مشروع الدولة في كل من شمال أفريقيا واليمن إضافة إلى الاكتفاء الذاتي في حالة سيناء وهي نذر خطر تحدق بالمنطقة بأسرها. تحول «الشيخ السياسي» إلى ورقة للثورات وإلى كرت يستخدمه النظام السوري الدموي يؤكد لنا أن جزءا من أزماتنا السياسية والاقتصادية هي أزمات مفتعلة لصالح الأزمة الكبرى وهي أزمة «الهوية» التي يعاني منها الواقع العربي؛ فلا هو الذي ينتمي تماما إلى العصر بمفهومه ولغته ورمزيته وحتى تطابق مجاله السياسي أو فهمه لطبيعة «الثورة» ولا هو الذي ينتمي للتاريخ والماضي في إطاره المفاهيمي والزمني والتاريخي، فالارتباك هو جزء من حالة «التلفيق» التي نعيشها منذ الاصطدام بسؤال النهضة التي أفزرت لنا جهادا إلكترونيا وثورات بأفكار شمولية وإقصائية ودعاة يتصدرون قوائم «فوربز» للأكثر ثراء واستطلاعات مجلات الموضة للأكثر تأثيرا ونجومية. [email protected]