الإعلام في أساسه كان ترويجياً لأفكار معينة (أيديولوجيا) تأتي على شكل منشورات، ثم تطورت الوسائل وصار الإعلام إخبارياً، على شكل صحف تدعي (الحياد) وكان التنافس الإعلامي محصوراً في سرعة نقل الأخبار.. ثم مع ظهور الإعلام التلفزيوني الأسرع في بث الأخبار اتجهت الصحف إلى تحليل تلك الأخبار وصار (الرأي) مادتها الأساسية.. فما الذي حدث ويحدث الآن؟ أغلب الظن أن كل شيء يعود حتماً إلى أساسيات وجوده، فالإعلام التلفزيوني لم يعد قادراً على الاكتفاء بكونه الوسيلة الأسرع لنشر الخبر مصوراً، فصار يعنى بالتحليل والرأي والحوار، وبات هو والصحف (الورقية) في خندق واحد، والكل يزعم (الحياد)! إلى هنا والعجلة تبدو آخذة دورانها بشكل طبيعيّ، غير أن طبيعة الحال تفرض دورة أسرع، وقد راقبنا نجاحات شبكة تلفزيونية عالمية عملاقة (سي إن إن) كانت الأبرز والأقوى بين القنوات التلفزيونية العالمية كافة، وتابعنا كيف تدنى ترتيبها وتراجع حضورها وتقلصت أعداد متابعيها بالشكل الذي جعل (جيم والتون)، الذي عمل محرراً لأخبارها منذ إنشائها عام 1981 وتدّرج في مهامها حتى أصبح رئيساً لها عام 2002م، يقدّم استقالته اعتباراً من بداية هذا العام 2013 وقال في حيثياتها بما يشبه الاعتراف: (تحتاج القناة التلفزيونية، لكي تنجح الآن، إلى فكر جديد بمنظور جديد يختلف عمّا كنّا نقدمه).. جيم والتون لم يكن مجرد رئيس لشبكة سي إن إن، فقد كان (الدينمو) المحرّك لها طيلة العقود التي شهدت تفوقها ونجاحاتها، كما أن الشبكة لم تكن مجرد قناة تلفزيونية أمريكية، بل كانت رائدة الشبكات التلفزيونية العالمية المتخصصة في الإعلام الإخباريّ (المحايد) ولا نستطيع أن نطعن في حيادها بشكل ملموس، فقد كنا نشاهد تغطيتها للحروب الأمريكية على العراق، ورأينا كيف كانت تجري المقابلات مع الرؤساء الأمريكيين طيلة تلك الحروب، وفي الوقت نفسه كانت تجري مقابلات مع الرئيس العراقي صدام حسين.. وكان منظراً في غاية الروعة أن نرى الرئيس العراقي الذي تحاربه أمريكا بكل قوتها يقول كل آرائه ويشرح مواقفه بشجاعة ووضوح ضد أمريكا من خلال شاشة أمريكية تترجم كلامه حرفياً – بدقة وأمانة - إلى اللغات العالمية الحية، فنالت القناة احترام مشاهديها في كل مكان واستحقت أن نبصم لها أنها القناة الإعلامية الوحيدة التي تستحق صفة (المحايدة) رغم توجهها الواضح في دعم الموقف الأمريكي، غير أنها كانت الأكثر حياداً في تلك المرحلة التي طغى فيها الانحياز الغبيّ والتدليس الكشوف على مختلف وسائل الإعلام التي كانت تدعي العالمية والشمولية والحياد.. ماذا تعني الآن استقالة رئيس تلك الشبكة (المحايدة) وكلمته في تبرير استقالته؟ الجواب، برأيي: إنها تعني أن المجتمع ككل – في كل أرجاء العالم – قد أصبح الآن في مواجهات خلافية مع بعضه، ولم يعد للحياد مكان. فالعالم الآن عبارة عن تكتلات صغيرة ترتبط بدوائر كبرى تنحاز إليها انحيازاً كلياً، ولا تتقبل أو لا تطيق رأياً محايداً.. وهذا ما يفسّر الفشل الذي منيت به شبكة سي إن إن في سنواتها الأخيرة وهي تحاول التمسك باستمرارية النهج الحيادي، ولا سبيل لها في معاودة النجاح إلا بالتماهي مع المزاج العالميّ العام للشعوب والجماهير، التي باتت لا تنجذب إلاّ لإعلام يشبه الإعلام البدائيّ الذي كان يُستخدم كسلاح موجّه من فريق ضد فريق.. وفي أحسن الأحوال، يعود كما كان (ترويجياً) حتى في مجالات الاقتصاد، والثقافة، والفن والترفيه.. هل هذا الكلام يخص الإعلام المرئيّ وحسب؟ بالطبع لا، فالإذاعات والصحف – غير الرسمية – حاولت أن تزعم (الحياد) في بعضها، ولكنها سرعان ما عادت إلى (الانحياز) من أجل دواعٍ مادية ضرورية لاستمراريتها، على عكس شبكة سي إن إن التي كافحت لآخر رمق من أجل (الحياد) مدعومة من اقتصاد أمريكيّ مهول، فكانت أول قناة تبث على مدار الساعة، وقد جرّبت (التشفير) لفترة من الزمن، وجرّبت التنويع في برامجها.. ولكنها أخيراً، كما يبدو من قرار استقالة رئيسها السابق (جيم والتون) وتصريحات رئيسها الجديد (جيف زوكر) الذي حدد توجهه بوجوب (التعامل مع المشاهدين بحساسية تعيد أكثرهم إلى الشبكة، إذ لم يعد السبق الإخباريّ كافياً)، أقول: يبدو من كل ذلك أن الشبكة الإعلامية العالمية الرائدة والمبتدعة لمنهج الإعلام (المحايد) قد أعلنت أخيراً استسلامها وتخليها عن مبدأ (الحياد) الذي تميزت به منذ تأسيسها، وسوف تضع خططها القادمة بتوزيع منهجيات متباينة على قنواتها المختلفة حسب المزاج العام للأغلبية (المنحازة) في كل منطقة من العالم؛ الشيء الذي يشي في تفصيلاته بنهاية الإعلام المحايد (إن كان له وجود أصلاً!) ومن ثم العودة الصريحة إلى الأهداف الأساسية من الإعلام، والمتمثلة في الترويج لأفكار معينة من أجل مصالح معينة.. وليس في ذلك أي خطأ، إنما الخطأ يكمن في ظننا بأن ثمة وسيلة إعلامية من الممكن أن تكون (محايدة) وتستمر..!