إذا استبعدنا فترة الثمانينات من القرن الماضي، يمكن القول إن استثمارات السعودية في أهم ملفات السياسة الخارجية لم تُحقق منذ 1990 وحتى الآن أي اختراق أو نجاح، له من الوزن ما يوازي حجم الاستثمار في أي من تلك الملفات. وكما رأينا في مقالة الأسبوع الماضي كانت أبرز حالات عدم التوفيق هذه السياسة في العراق وسورية. طبعاً لا بد من التنويه في هذا السياق بأن هذا لا يقابله نجاح السياسة الخارجية لأي من هذين البلدين العربيين. على العكس، لقد انتهت السياسة الخارجية لكل منهما إلى كارثة وطنية تفوق في تداعياتها المدمرة ما حصل أثناء خضوعهما للاستعمار البريطاني في حالة العراق، والاستعمار الفرنسي في حالة سورية. هناك حالتان حققت فيهما السياسة السعودية شيئاً من النجاح. هناك أولاً الملف اليمني الذي حققت فيه السياسة الخارجية السعودية نجاحاً ملموساً في الأعوام الأخيرة، فنجحت قبل الربيع العربي وبالتعاون مع الحكومة اليمنية، في ضبط الأوضاع السياسية في هذا البلد من الانفجار. وبعد الربيع نجحت من خلال ما عرف ب «المبادرة الخليجية» في زحزحة الرئيس السابق علي عبدالله صالح، ليحل محله نائب الرئيس عبدربه منصور هادي لقيادة مرحلة انتقالية، وتجنيب اليمن الانزلاق إلى حرب أهلية. ونظراً لأن مسألة الجنوب عادت لتنفجر مرة أخرى، وتقاطعت بعد ذلك مع الثورة، ونظراً لأن اليمن لا يزال في قلب المرحلة الانتقالية، والرئيس السابق لم يغادر المشهد السياسي تماماً، يمكن القول إن النجاح الذي تحقق هنا، وعلى رغم إشراف الأممالمتحدة، لم يكتمل بعد. السؤال الذي لا يمكن للمراقب تفاديه هو: لماذا يبدو سجل السياسة الخارجية السعودية خليطاً من النجاح غير المكتمل، وعدم التوفيق الذي لا بد من مواجهته؟ للدقة، وقبل الإجابة، لا يعود السبب الرئيس في عدم اكتمال نجاح المبادرة في اليمن إلى السعودية، بل إلى تعقيد الوضع السياسي اليمني، وإصرار إيران على التدخل، وتهريب الأسلحة إلى هناك لإبقاء الوضع غير مستقر، ولإيجاد موطئ قدم لها في جنوب الجزيرة العربية. في السياق نفسه، كانت السعودية مع بقية دول مجلس التعاون الخليجي اتخذت قراراً بإرسال قوات «درع الجزيرة» لحماية المنشآت الحيوية في البحرين، على إثر تصاعد الصدامات بين قوات الأمن البحرينية والمتظاهرين في أوائل آذار (مارس) عام 2011، وكان هذا قراراً صائباً في هدفه وتوقيته، لكنه لم يكن مدعوماً ببرنامج أو مبادرة سياسية لتجاوز حال الانقسام المذهبي والسياسي التي انزلقت إليها البحرين في إطار الربيع العربي، وهنا أيضاً تحاول إيران استخدام الأزمة في البحرين لإيجاد موطئ قدم لها على مقربة من السعودية، وفي وسط دول الخليج العربي. ومرة أخرى، نجحت الخطوة الخليجية السعودية في دعم البحرين على مواجهة الموقف، لكنها لم تكتمل بعد لحل هذا الموقف، ووضع حدّ له، ربما أن الحساسية السياسية داخل مجلس التعاون هي التي تجعل من استكمال الخطوة الأمنية بأخرى سياسية تبدو وكأنها تدخل في الشأن السياسي الداخلي للبحرين، وإذا صح هذا، فإنه يمثل مفارقة، لكن ماذا لو أن عدم الإقدام على الخطوة السياسية يعكس مواقف دول المجلس الأخرى؟ لندع حالتي البحرين واليمن، ونعود إلى حالتي العراق وسورية، للإجابة عن السؤال الذي طرحناه في بداية الفقرة السابقة. لماذا لم يأت الاستثمار في هذين الملفين بالمردود الذي كان متوقعاً؟ لا شك في أن جزءاً من الإجابة موجود في طبيعة نظام البعث في كل من العراق وسورية، وأنه نظام محكوم بذهنية التآمر بحكم أنه نتاج بيئة سياسية تميزت لعقود بظاهرة الانقلابات العسكرية، وبالحضور القوي لفكرة تحالف الأقليات، الحاضن الأول لذهنية التآمر، لكن هناك جزءاً مهماً من الإجابة موجوداً في مرتكزات السياسة الخارجية السعودية ذاتها، وهي مرتكزات من الواضح أنها لم تعد مجدية في هذه المرحلة، وأهمها محاولة الاستفادة من معادلة توازنات القوة في المنطقة وما يرتبط بها من مصالح، لكن مع عدم الدخول، في الوقت نفسه، كطرف مباشر ومؤثر في هذه المعادلة. كيف؟ السعودية دولة كبيرة على كل المستويات الجغرافية والاقتصادية والسكانية والإسلامية، وإضافة إلى ذلك تحتل موقعاً استراتيجياً في منطقة استراتيجية على خريطة العالم، وهذا ما منح السعودية دوراً سياسياً كبيراً في المنطقة، ولذلك فهي إحدى الدول العربية الأربع التي كانت إلى وقت قريب تشكل أعمدة المربع الذي هيمن على ما كان يعرف بالنظام الإقليمي العربي. المفارقة أن هذه الدولة الكبيرة لا تملك قدرات عسكرية تتناسب مع حجمها الاقتصادي والجغرافي، وحجم دورها السياسي الإقليمي، وقبل ذلك حجم حاجات أمنها الوطني، وبالتالي فهي ليست طرفاً مباشراً في معادلة توازنات القوة، وبخاصة في منطقة الخليج العربي. خضعت هذه المنطقة أولاً لتوازن القوة بين العراق وإيران، ثم بين العراق وإيران والولايات المتحدة من خلال الوجود العسكري للأخيرة في البحار المحيطة بالمنطقة بعد الغزو العراقي للكويت، ثم بعد سقوط العراق تحت الاحتلال الأميركي والنفوذ الإيراني، خرج العراق من المعادلة أيضاً، لتصبح محصورة تقريباً بين إيران والولايات المتحدة التي انتقلت قواتها إلى أرض الخليج، وفاقم هذا التطور من اختلال توازنات القوة، وبالتالي زاد من حال عدم الاستقرار في المنطقة، وهي حال تغذيها إيران بأمل أن تصبح هي القوة الإقليمية المهيمنة. في هذا الإطار، ومن حيث أن السياسة الخارجية تحتاج إلى أنياب ومصادر قوة، تعتمد السعودية في سياساتها الخارجية وحماية أمنها الوطني على الديبلوماسية والمساعدات المالية أولاً، وعلى توازنات القوة الإقليمية والدولية ثانياً. هي تملك السيطرة على العنصرين الأوليين، لكنها لا تملك شيئاً من ذلك على العنصر الأخير، وتتمثل نتيجة ذلك في ما انتهى إليه العراق، وعلاقته مع السعودية. في عهد صدام حسين كانت القيادة العراقية تدرك صورة التوازنات في المنطقة حينها وموقع السعودية فيها، ولذلك أقدمت على غزو الكويت ظناً منها أن الرياض ستخضع للأمر الواقع، وتبين خطأ الحسابات القاتل للقيادة العراقية، لكن الذي استفاد من ذلك ليس السعودية ولا العراق وإنما إيران، حتى الآن. الحال السورية مختلفة، لكن حصل فيها شيء مشابه وبنتيجة مشابهة، فكانت القيادة السورية تدرك حاجة السعودية إلى سورية لضبط التوازنات الإقليمية، واستغلت علاقتها مع الرياض لتمرير السلاح الإيراني إلى «حزب الله» تحت غطاء ما يسمى المقاومة. تغيّر المشهد في عهد الأسد الابن، فبفعل عملية التوريث انقسمت القيادة الأمنية السورية، وتضاعف اعتماد الرئيس السوري على إيران، ووصل «حزب الله» إلى ذروة قوته العسكرية. في هذا السياق، يبدو أن تفاهماً سورياً إيرانياً قضى بتصفية رفيق الحريري، ومعه تصفية التفاهم السعودي السوري للإمساك بالورقة اللبنانية. كانت طهران في حاجة إلى هذه الورقة في مفاوضاتها النووية، وكانت دمشق في حاجة إلى الورقة ذاتها في وجه تداعيات الغزو الأميركي للعراق، ولإنهاء الانقسام، وتصليب حكم الأسد الابن في الداخل. هنا تكون دمشق وضعت السعودية أمام خيارين: إما قبول الأمر الواقع، أو الصدام معها، لكن سرعان ما فرضت الأحداث على سورية سحب جيشها من لبنان، وخوض معركة المحكمة الدولية التي لم تنته حتى الآن، ثم جاءت الثورة الشعبية لتضع حكم عائلة الأسد على مشارف الانتهاء، وتضع التحالف السوري الإيراني كما كان يتصوره بشار الأسد، والمرشد الإيراني علي خامنئي، أمام خطر الانكسار. ماذا استفادت السعودية من ذلك؟ ليس واضحاً، وما هو واضح أن لعبة التوازنات الإقليمية كما تصورتها الرياض لم تؤد إلى النتيجة المرجوة حتى الآن، وأن تطورات الثورة السورية أعادت الوضع في الشام إلى لعبة التوازنات الدولية، ومن ثم فإن المثالين العراقي والسوري يكشفان في شكل واضح أن الاعتماد على لعبة التوازنات هذه من دون قوة تستند إليها يحتاج إلى مراجعة.