أخبار وأنباء عدة تناولتها الصحف السعودية في الفترة الماضية، تشير جميعها إلى تنامي واستشراء واضح لإحدى وأبرز صور الفساد في المجتمع، وهي الرشوة بمختلف صورها وأشكالها ووسائلها المباشرة وغير المباشرة، فمن اتهام لمدير إدارة حكومية وستة من الموظفين في أحد القطاعات الأمنية بالمنطقة الشرقية بالرشوة والاستغلال الوظيفي، إلى رشوة بعض مراقبي البلديات في العاصمة للسكوت وغض الطرف عن بعض المخالفات، إلى تعاطي مسؤول في مكتب العمل بإحدى المناطق الرشوة في مقابل التساهل بإجراءات الحصول على تأشيرات، وصولاً إلى خبر إعطاء ودفع أحد رجال الأعمال بمدينة جدة مبلغ 60 مليون ريال لأحد قضاة المحكمة مقابل استخراج صك مزور لأرض تقدر مساحتها بأربعة ملايين متر مربع، التي قام ببيعها بعد ذلك بمبلغ 160 مليون ريال. وأخيراً وصف أحد أعضاء مجلس الشورى بأن 75 في المئة من المتورطين في قضايا الرشاوى هم سعوديون. مثل هذه الأخبار والأرقام والإحصاءات المنشورة في الصحف المحلية ربما لا تشكل في منظور المواطن، أو هي لا تعبر بالنسبة إليه إلا عن نزر يسير من المشهد، أو الواقع الحقيقي لها في المجتمع، خصوصاً إن كان أحد الأطراف ذا نفوذ، ممن لا تطاوله شمس الظهيرة، ولا زمهرير الليل، أو من يستظل بظلالهم! وكما يقال «ما خفي كان أعظم»! الرشوة بصورها وأشكالها المتنوعة من حيث الوقوع والانتشار لا يختلف أحد في أنه لا تكاد تخلو دولة على وجه الأرض منها، ولا توجد دولة مستثناة من هذه الظاهرة العالمية الخطرة كأحد أبرز أوجه الفساد التي باتت تكلف العالم، وفقاً لإحصاءات الأممالمتحدة، أكثر من تريليون دولار سنوياً، لكن المؤكد والأهم أن حجم استشراء هذه الظاهرة يتفاوت من مكان لآخر، ف«الفيروس» في الجسد المتهالك ليس ك«الفيروس» في الجسم الصحيح، والقمامة التي تُرمى في الماء المتكلس ليست كتلك التي يجرفها الماء المتحرك. ففي المجتمعات التي يسودها القانون والمساءلة والمحاسبة الشعبية وحرية وسائل الإعلام واستقلالية القضاء، فإن تلك الدول تسعى جاهدة لمحاصرة الرُشى، ويتعرض أطرافها للمساءلة القضائية والقانونية والمحاسبة العلنية، حتى إن كان المتورطون ممن على رأس الهرم الحكومي، وتقديم الاعتذار بكل صراحة ووضوح للشعب، كما فعل منذ أشهر رئيس كوريا الجنوبية، حين قدم اعتذاره نتيجة فضائح الرشاوى التي تورط فيها شقيقه، بتلقيه نصف مليون دولار من بنكين متعثرين، وقال: «إنني أنحني واعتذر عن تورط أفراد من أسرتي والمحيطين بي في مثل ذلك»، وتم حينها احتجاز شقيقه تمهيداً للتحقيق معه ومحاكمته. أما في ظل غياب سيادة القانون وقيم المشاركة والرقابة الشعبية، وغياب القوانين الدستورية المنظمة للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وانعدام الشفافية وتلاشي حرية وسائل الإعلام، فإن مثل هذه الظاهرة تصبح في هذه المجتمعات كالماء المتسرب بين الشقوق ينخر فيها نخراً، وتصبح مرضاً فتاكاً يستشري في جسد المجتمع، يتولد عنه مضاعفات تؤثر سلباً في استقرار الدول، وفي نسيج المجتمعات ومكوناتها ودخل الأفراد ومستوى أداء الاقتصاد والتنمية فيها، بحيث تصبح ثقافة وقيمة سائدة فيه. قد تختلف وتتفاوت أسباب ومسببات انتشار مثل هذه الظاهرة الخطرة من بيئة لأخرى، ومن مجتمع لآخر، وفقاً لما هو أولى وأهم، على رغم التشارك في أكثرها. وحتى لا يكون حديثنا مجرد تكهنات وتوقعات حول أهم أسباب استشراء واستفحال الرشاوى في مجتمعنا السعودي، إذ أشارت دراسة علمية بجامعة الملك سعود بعنوان «الرشوة وأثرها في المجتمع السعودي»، أعدها الباحث خالد الحزيم، إلى أن من أهم الأسباب ضعف الرقابة الإدارية على أداء وإنجاز القطاعات الحكومية، وهنا يبرز على وجه أخص الغياب المطلق لمفهوم الرقابة الشعبية ولمؤسسات المجتمع المدني كممثل عن المجتمع في مراقبة ومحاسبة أداء وتجاوزات تلك القطاعات، وكذلك عدم تطبيق الأنظمة والعقوبات على الأشخاص الذين تحول مكانتهم ومراكزهم الوظيفية دون تحقيق وتطبيق ذلك عليهم، وتدني مستويات الأجور لموظفي القطاع الحكومي، التي لا تتناسب مع ارتفاع تكاليف المعيشة ومتطلباتها، التي قد تدفع البعض لأخذ الرشاوى، وكذلك سوء توزيع الدخل وتجمع الأموال، واحتكار مصادر الثروة لدى فئة محدودة في المجتمع، وذلك على حساب الأكثرية، ما يؤدي إلى تنامي الطبقية في المجتمع، ما يولد شعوراً لدى الموظف بالشعور بالغبن والظلم، وهو ما قد يجعل البعض يلجأ نتيجة لذلك لأخذ الرشاوى من أصحاب رؤوس الأموال، والمركزية الشديدة والروتين والتعقيد البيروقراطي في الإدارات والمؤسسات الحكومية، وعدم وضوح الأنظمة فيها وتناقضها، ولذلك يقول الاقتصاديون، كلما كانت القوانين عائقاً أمام إقامة الأعمال، فحينها يلجأ أرباب الأعمال لتقديم الرشاوى والمنح لتذليل الصعوبات والعوائق، وبعبارة أخرى إن القوانين الأكثر مرونة تعني رشاوى أقل. كل هذه الأسباب وغيرها «وعلى مدى سنوات وسنوات» أدت إلى ظهور الكثير من المشاريع التنموية المتهالكة والمتعثرة، نتيجة التواطؤ والاستغلال من بعض المسؤولين لمناصبهم للتكسب الشخصي مع منفذي المشاريع والتلاعب بالمواصفات والغش في التنفيذ، وظهور التفاوت الطبقي عبر حصول فئة من الشعب على المكاسب والأموال بطرق غير مشروعة. وكذلك انعدام الثقة في تطبيق الأنظمة والقوانين على الجميع، وفقدان شعور الإحساس بالمواطنة، كل ذلك يستدعي اتخاذ خطوات وإستراتيجية عملية وشاملة على أرض الواقع من الدولة، وبمشاركة فعالة وواضحة للمواطن للإسهام في المحاصرة لذلك الطوفان الذي يقضي على تحقيق ونجاح البرامج والمشاريع التنموية في البلاد.