لا نشك في أن عمليات اجتثاث جذور الفساد العائثة بالوطن وتطهير تربته ليس بالأمر الهين ولا السهل، ولا أعتقد بأن الحلم سيداعب العقول الفطنة بأن مجرد تأسيس هيئة لمكافحة الفساد ستزول هذه النجاسات وتطهر البلاد منهم ما بين ليلة وضحاها. لذلك لم يصدمنا تقرير منظمة الشفافية الدولية الذي كشف أخيراً موقع السعودية من الفساد، فالحال تعبر عن نفسها، المصيبة الكبرى تتمثل في عدم معرفتنا الدقيقة بمدى العطب الذي لحق بوطننا الغالي، فهيئة مكافحة الفساد على رغم محاولاتها في تلمس الطرق المثلى للوصول إلى مكامنه الخابية والمطمورة تحت أنقاض كثيرة تتمثل في البيروقراطية الإدارية والاعتبارات الشخصية البعيدة عن المساس، ما لم تقم بدراسات جادة للبحث والتنقيب للكشف عن ذلك، فسنظل نلتف على أنفسنا في دائرة مغلقة حد الاختناق، وسيظل المواطن البسيط مغموساً بالبؤس على ما تؤول إليه حاله من استغلال يصل إلى حد الاضطهاد، كيف تتعقد الأمور ويصبح الفساد معها عصياً على الاكتشاف، فما يحدث في بعض من الإدارات والمؤسسات الحكومية يكشف وعورة المسالك على رجال مكافحة الفساد، وسأتحدث هنا عن نوع من المسؤولين المتشبثين بمناصبهم منذ أعوام طويلة لا يتزحزحون حتى استطاعوا بناء علاقات مشبوهة مع عينة خاصة من الموظفين، تقوم غالبها على مشاعر الرضا والسخط، تتجاذبها المصلحة الخاصة بينهم، وبناءً عليها تتخذ التدابير اللازمة حيال الموظفين الغلابة إما بالإقصاء أو التقريب وما بينهما بون شاسع. هؤلاء المسؤولون العتيدون تعلموا بخبرة الأعوام الطويلة من يقربون ومن يستبعدون، فغير الصالحين بحسب فهمهم للصلاح يستبعدون إلى إدارات لا تتقاطع مع الإدارات الحساسة ذات العلاقة بالأموال والنفوذ بأي شكل من الأشكال، تلك التي تدخر لموظفين أخيار، حتى لو كانوا لا يحملون مؤهلات جيدة ولا خبرة كافية ولا رصيداً معرفياً يساعدهم لتحري الدقة في اتخاذ القرارات، لذلك فهم الأجدر لهذه المواقع الحساسة لقابلية عجينتهم اللدنة للتشكل، حتى يصبحوا بين أيدي المسؤولين خدماً ممهورين بمصادقتهم، يذعنون لهم ويحنون رقابهم لإشاراتهم بالسمع والطاعة ما داموا يحصدون النجوم التي يمنحون إياها، منها نسب العائدات من الصفقات المبرمة، ومنها الانتدابات المتكررة، منها خارج الدوام غير المنقطع، وكل أنواع المكافآت التي يجزل بها عليهم بما يشبه المنح، لأنها لا تدفع لهم من جيوبهم، فماذا يجني المسؤولون من هؤلاء المجتبين الأخيار؟ أولها: الصمت المطبق على كل ممارساتهم؟ ثانياً: القبول بلا تردد لكل المشاريع وعقود الشركات المبرمة و«الكوميشن» الذي سيدخل حساباتهم فور توقيع الصفقة. ثالثاً: سعيهم الدؤوب إلى البحث عن الثغرات التي سينفذ من خلالها وردم كل الطرق المؤدية للمسألة. رابعاً: تقديم الخدمات الإضافية لهم ولأهل بيتهم، هذا الشعور الفريد يمنحهم الاقتراب ويفيض عليهم بمكاسب أخرى. خامساً: خضوعهم وإذعانهم لأوامرهم بتعيين أبنائهم وقرابتهم حتى لو خصصت نصف وظائف المؤسسة للأهل والأقربين. سادساً: تسهيل ترقيات الموظفين المرغوب فيهم، وإرسال الأعين من الموظفين الصغار للتجسس على بقية الإدارات؛ خصوصاً الأنداد غير القابلين للرشوة لالتقاط أقوالهم. سابعاً: ضبط المعاملات والفواتير بما لا يدع ثقباً واحداً يمرر الأعين المترصدة، بما في ذلك المظاريف السرية التي ترسل بها هيئة مكافحة الفساد. المسؤولون الأفاضل بما يتعلق بالمصلحة الشخصية منتجون جداً، قلبوا النظام على مقاس فهمهم وتفكيرهم، وأعادوا صياغته باحترافية عالية ليتناسب مع طموحاتهم الواسعة، وعند اتخاذ قرار كبير كالبدء في مشروع ضخم سترصد له الملايين يشرعون في تشكيل اللجان الاستشارية من عينات خاصة قادرة على تأمينهم. إذاً - برأيكم - ما اللعنة التي ستحل بدار قوم رافضين لهذه الإدارات الفاسدة؟ حتماً سيكون أولها الحرمان من كل الامتيازات التي منها تجميد ترقياتهم وحرمانهم من «خارج الدوام» والانتدابات والدورات الداخلية والخارجية، وملاحقتهم عند كل صغيرة وكبيرة، وسحب كل الصلاحيات منهم. أما الموظفون الأكفاء العاملون بصمت وجدّ فقد يسرقهم إخلاصهم في العمل عن البحث والتنقيب خلف المراتب العليا، إيماناً منهم «سذاجة أو ربما تعففاً»، بأن الله (لن يضيع أجر من أحسن عملاً)، وهذا صحيح شريطة أن تكون البيئة صحية ومعافاة من الأسقام والعلل. برأيكم: أي إنجاز نتوخاه من أمثال هؤلاء المسؤولين؟ وأي مصير ينتظر صروحنا التي كلفت الدولة موازنات باهظة تحت إدارات هشة ومتسلقة ومتآمرة؟ أتدرون ما هي المأساة الكبرى؟ هي عندما نسمع من بعض المتخاذلين المستسلمين أن هؤلاء «المسؤولين» هم فرز طبيعي للمرحلة، وبناءً عليه لا نستطيع تغييرها أو الاعتراض عليها. فهل نتوخى بعد هذا كله من هيئة الفساد القدرة على الوصول إليهم؟ أم سنظل نردد: «ابشر بطول سلامة يا مفسد»؟! لن يأتي بعد ذلك سوى الصمت المطبق! وكان الله في عون مسؤولي هيئة مكافحة الفساد.