وقعت مصر ضحية قوتين؛ قوة شعبية الإسلاميين وقوة نفوذ الليبراليين السياسي والقضائي والاقتصادي والإعلامي، النفوذ الذي استغرق بناؤه منذ ثورة الضباط الأحرار بداية الخمسينات الميلادية، وأظهرت الأحداث الأخيرة أن العلاقة بينهما تعدت الخصومة إلى العداوة الشرسة، ومن الضرب الذي يسمح به القانون إلى اللكم العنيف تحت الحزام، وهذا ما ينذر بانزلاق البلاد إلى مستنقع مليء ببكتيريا الاضطرابات. تقول صحيفة «اليوم السابع» المحسوبة على التوجه الليبرالي ومن مصادرها الخاصة من القصر الرئاسي، بأن هناك مخططا لاستخدام القضاء لتوجيه ضربة قاصمة وقاضية للرئيس مرسي بعد أن فشل التيار الليبرالي في استخدام مخلب العسكر، وإن الرئيس اتخذ قراراته الدستورية الأخيرة والخطرة ليتغدى بخصومه قبل أن يتعشوا به، ولا نملك بطبيعة الحال ما ينفي أو يؤكد هذه الفرضية، لكن الحقيقة على الأرض تقول بأن قوى التيار المدني وفلول النظام ورجال الأعمال وأغلبية الإعلام المصري، ورغم التناقضات التي بينهم، يرمون تيار «الإخوان» ورئيسهم المنتخب من قوس واحدة، وهي قوى لا تملك رصيدا شعبيا، لكن تملك وسائل فاعلة وقوية، وقد بلغ تصعيد هذه القوى مستوى وصل إلى حد استخدام العنف، وكلنا شاهدنا بلطجية مستأجرة حاولت اقتحام وزارة الداخلية، وحطمت عددا من مقار حزب الحرية والعدالة، وأشعلت النيران في عدد منها دون أن ينبس واحد من زعامات المعارضة «المدنية» بنقد هذه التصرفات اللامسؤولة. ولقد تحولت خصومة التيارات الليبرالية من معارضة حضارية تجعل من النقد والمراقبة وسيلة لتقويم تجربة الإسلاميين في الحكم، إلى معارضة تريد، عن سبق إصرار وترصد، إفشال تجربة الرئيس مرسي مهما كانت النتائج كارثية على الوطن، فلم تمضِ أسابيع قليلة على توليه السلطة إلا وطالبت بإسقاط الرئيس ونزع الثقة من حكومته غير مكترثة ببعض المطالب التي حققها للمعارضة، مثل عدم انتماء أغلبية وزراء حكومته للتيار الإسلامي، ونجاحه في إعادة شيء من الدور الدبلوماسي المصري الذي تضاءل في عهد نظام مبارك، ونجاحه في إزالة توجس المعارضة من توجهه نحو تقوية العلاقة مع النظام الإيراني، حيث حدث العكس، كما تقول عدد من الصحف الغربية، فوجه ضربات للنفوذ الإيراني في المنطقة، إحداها توجيه بوصلة حماس نحو القاهرة بدل طهران، وانتقاده بشدة نظام بشار الأسد في عقر الدار الإيرانية، وأخيرا نجاحه الدبلوماسي الأخير في توقيع الهدنة بين حماس وإسرائيل، حيث أدركت أميركا أهمية وجود مفاوض ينطلق من قاعدة شعبية، وليس من قاعدة تحالفية يملي فيها الحليف الأقوى تعليماته للحليف الأضعف. وفي ذات الوقت، فقد ساهمت نشوة هذه الإنجازات في إقدام الرئيس على قرارات صعبة لتمكين سيطرته وإثبات جدارة انتخابه، نفد بجلده من أحدها وهو قراره الصعب بعزل العسكري القوي طنطاوي ومعاونه عنان، ثم قراراته الدستورية الأخيرة، وهي الأخطر على الإطلاق، لكن «ما كل مرة تسلم الجرة»، فقراراته الأخيرة على خلاف قراره بتحييد العسكر، خلق انقساما شديدا حتى بين المناهضين لنظام مبارك، ودخل الآن في مواجهة خطيرة مع نظام قضائي قوي لم يستطع حتى نظام مبارك شبه الشمولي ترويضه وإدخاله بيت الطاعة. كما أن قراراته الدستورية عززت من التهمة التقليدية التي طالما رددها خصوم الإسلاميين، وهي القفز على الانتخابات للاستفراد بالسلطة، خاصة أن تجربة «الإخوان» في حكم مصر هي التجربة الأبرز، وهي التي سلطت عليها المجاهر، على خلاف التجربة التونسية، فلا تحتمل هشاشة التجربة في بداياتها مثل هذه الجرعات الخطرة من القرارات التي ربما وأدتها في مهدها.