أعلن بعض القضاة رفضهم قرار مجلس الشورى، الذي يقتضي أن تلتزم المرأة -خلال 15 سنة قادمة- باستصدار بطاقة مدنية تشير إلى هويتها القانونية في تعاملها مع مؤسسات الدولة التي تقتضيها المصلحة. وبحجة عدم جواز النظر في وجه المرأة أو وضع صورتها على البطاقة، يحرمون المرأة من حقها باحتسابها «مواطناً مستقلاًّ» يشمله التعداد، وتمتعها بهوية قانونية تحفظ بها حقوقها وتمنع سرقة أموالها وتزوير هويتها. كنت أظن أن قضاتنا سيساهمون بعلمهم الشرعي في التقليل من حدة الصراع بين المجتمع وبين مشروع تحديث الدولة وتنمية المجتمع، بشرط عدم تعارض هذه المشروعات مع الدين، مما يفتح أمام الناس مسارات واسعة للحفاظ على مصالحهم بدلاً من وقوفهم مع البسطاء من الناس والمتعنتين الذين يقلقهم أن يتركوا ما ألفوه، ويزيدون توجسهم من كل خطوة تغيير مهما كان هدفها. فهؤلاء القضاة يعرفون أكثر مني الموقف الفقهي الذي ورد في النووي عن القاضي عياض قوله: «إن المعاملة بالبيع والشراء مما يُستثنى في غض البصر عن وجه المرأة»، وقال ابن قدامة في المغني «قال أحمد: لا يشهد على امرأة، إلا أن يكون قد عرفها بعينها، وإنْ عامل امرأةً في بيع أو إجارة، فله النّظر إلى وجهها، ليَعلمها بعينها، فيرجع عليها بالدّرْك»، فإن كان هذا الموقف جائزاً بين متعاملين في تجارة بين امرأة ورجل، فهو أولى أمام قضاة يحكمون بين الناس ويحرسون مصالحهم وحقوقهم. هؤلاء القضاة لا يرون مصلحة من استصدار هذه البطاقات وإلزام النساء بها، بل يزيدون بأنهم يرفضون النظر في البطاقة التي تبرزها المرأة أمامهم في المحكمة، بل يلومون ويقرّعون من تقدم لهم بطاقتها إذا ما تركت صورتها في البطاقة دون طمس، كما يرفضون أن يكون هناك حل وسط، بأن يطابق صحة البطاقة موظفات في المحكمة يفترض وجودهن، طالما أن المحاكم ليست للرجال فقط. ولأن الحال لا يستوي دون أن يتأكد القاضي من هوية من يقف أمامه، فإن القضاة يعتمدون منهجاً اسمه «المعرِّف»، ولا يكتفى بمعرِّف واحد بل بمعرِّفين اثنين يلزم على كل امرأة تراجع المحكمة في شأنٍ يخصها أن تصحبهما معها، كي يقبل القاضي النظر في قضيتها. والعجيب أن القاضي لا يقبل بطاقة مدنية تُصدرها مؤسسات الدولة، بينما يقبل أن تحضر امرأة مع أخيها وزميل له في العمل يشهد على شهادة الأخ بأنها فلانة. ولهذا شاع في كثير من مؤسسات الدولة أن يُعتبر حمل المرأة بطاقة مدنية أمراً لا معنى له -اللهم إلا في الحدود الدنيا-، ولا بد لها في كل قضية من معرِّفَيْن وولي أمر ووكيل، بحيث تحتاج المرأة إلى فريق من الرجال في كل مرة تشاء أن تنجز أمراً. أن يأتي هذا التعنت ضد قرار مجلس الشورى من القضاة، سواء ما أعلنوه أو ما عملوا به داخل المحاكم، في وقت تنشر فيه الصحف أخباراً عن ترجيح وصول 30 امرأة إلى مجلس الشورى في دورته القادمة، فهذا دليل على أن حضور المرأة في فضاء الدولة هو حضور يعتمد على القص واللصق وتجميل المواقع، ولا دليل على فاعلية حضورها كمواطن رشيد أهل للثقة، والسؤال الأخير يقتضي أن نعرف: إن كانت المرأة عضواً في «الشورى»، هل ستحمل معها أيضاً معرِّفَيْن أمام القاضي وهي تشغل منصباً تُستشار فيه في قضايا مجتمعها؟ وهل ستحتاج في كل دائرة حكومية تُراجِعها إلى وكيل ينوب عنها!