كشفت الهيئات العالمية المعنية برصد معدلات نمو الفقر في العالم وطرق محاربتها، أن ملايين المنظمات غير الربحية العاملة في العالم استطاعت وقف نمو واستشراء الفقر في كثير من الدول النامية، ففي أميركا على سبيل المثال ما يقرب من مليون منظمة غير ربحية توفر ما قدره 250 بليون دولار سنوياً للأعمال التطوعية ذات الطابع الجماعي، وفي بريطانيا حثت الحكومة هذه الجماعات من خلال حملة تبرعات تطلقها ما بين الفينة والأخرى، الأمر الذي كشف قدرتها على تجاوز قدرات الحكومة في هذا المضمار، مؤكدة بما لا يقطعه الشك أن البيروقراطية المستحكمة كانت إلى وقت قريب سبباً مباشراً في فشل كثير من الخطط الرامية للقضاء على الفقر. أما في دول العالم الثالث، فثمة تجارب ناجحة استطاعت أن تنتقل بمجتمعاتها من مرحلة التسول وانتظار الإعانات الشرقية والغربية من خلال إتاحة الفرصة للمنظمات غير الربحية أن تنطلق من دون وصاية أو توجيه، لذلك تمكنت من قيادة دفة العمل الجماعي التطوعي إلى مرحلة متقدمة جداً وهي الإنتاج، ما أسهم بدوره في صعود سلم التنمية لديها، كالهند والبرازيل وتايلاند، التي تحررت أخيراً من استبداد الحكومة وسيطرتها على مؤسسات المجتمع المدني، لتنطلق بحرية بتكوين جماعاتها وتوفير وظائف لخريجي الجامعات لإدارة مشاريعها الصغيرة، لقد أدرك الناس هناك بأنهم لا يحتاجون إلى الغذاء والملبس الذي يأتيهم من فوق مهما كان كثيراً، بقدر حاجتهم للحصول على عمل يتجاوز حدود الأنا متجهاً إلى الآخر، ففي كل دولة مصادر وظروف ملائمة للتنمية بشرط الخلاص من أنظمة الدولة المستحكمة. وتعزى مجموعة الأسباب المؤدية للفشل الذريع الذي تبوأته هذه الجمعيات النوعية الناشئة حديثاً لدينا إلى النقص الحاد في الخبرة بسبب ضعف التجربة، وحداثتها، ولأنها لم تنطلق من الأسفل إلى الأعلى، بل جاءت نتيجة إرادة حكومية تهدف إلى تحقيق عصر المجتمع المدني العالمي (العولمة) الذي تنتشر فيه الجمعيات التطوعية، يكون أساسه المجتمع على مختلف أطيافه، من دون البدء بإرهاصات ضرورية وملحة تبدأ من وعي الفرد واستيعابه لطبيعة وجوده كمواطن مستقل، لديه خيارات متاحة. ومن المهم بمكان لانطلاقة مؤسسات أو منظمات المجتمع المدني القائمة على أعمال تطوعية أن تلامس روحانية المجتمع السعودي المتدين، وأثبتت التجارب بأن الجماعات الدينية هي الأقدر على الالتفاف حول نفسها، خصوصاً وقت الأزمات، ففي مصر إبان ثورة 25 كانون الثاني (يناير) استطاعت قيادة أعمالها التطوعية بكل حنكة واقتدار، لا يهمنا من هذا الأمر إلا التأكيد على تمكين المجتمع من إرادته المتمثلة في الانخراط في تنظيمات تطوعية ببناء مؤسسات لا تخضع لبيروقراطية الدولة، ولا لوصاية إداراتها التعسفية. أما أن تقوم هي بتأسيس هذه المؤسسات وتملك زمامها بانتخابات صورية يرشح لها بعض العاملين لديها، أو الوجهاء المقربين إليها، فهذا يُعد محض تمثيل لا يجسد أدنى متطلبات مؤسسات المجتمع المدني، حتى ولو جاء بعضها مدفوعاً بحماسة تعاطفية مع بعض الحالات كذوي الاحتياجات الخاصة وغيرهم. تلك المنتهية فقط بانتهاء مناسباتها احتفالية والتقاط الصور التي تعلق على واجهة «فيسبوك». لا أحد يجهل ما يزخر به بلادنا من شركات كبرى تدير ثروات طائلة لا تفرض عليها ضرائب من نوع ما، إلا ما يصل منها إلى مصلحة الزكاة والدخل ويعد النزر القليل مقارنة بدخولها السنوية على مشاريعها العملاقة، هذا متى علمنا بأن المشاريع التي تقوم بتنفيذها والأراضي التي تضع يدها عليها لا يؤخذ عليها زكاة، ومن منطلق النظرية التي أخضعت للتطبيق ونجحت في دول تطبق نظام الضرائب بلا محاباة تعد أمثال هذه الشركات مصدراً ممتازاً لضخ الأموال للمنظمات غير الربحية، فما يمكن أن تقوم به الجمعيات التطوعية هو تصميم مشاريعها ذات الخدمات الإنسانية وستجد منافذ متعددة للحصول على الأموال، وقد سمعنا وقرأنا عن شركات عالمية ضخمة تقدم أموالاً كبيرة بين أيدي المنظمات غير الربحية، وقد تقوم هذه الشركات بدعمها بواسطة الشراكة وهو ما يُسمى في النظام الإسلامي المضاربة، إذاً الفرصة لبناء أعمال تطوعية ناجحة لدينا ممكنة جداً، ولعل الزكاة أهم مصدر مالي تستطيع المؤسسات التطوعية الإفادة منه، بإسناد هذه المهمة إلى مؤسسات تطوعية، لا تخضع لاعتبارات إدارية منغلقة، معتمدة على آلية منفتحة ودقيقة تبدأ من جمع المعلومات عن مصادر الزكاة والمستحق عليهم دفعها من خلال أدوات تحرٍ وتمحيص دقيق يُعطى عليه العاملون النسبة المستحقة من الزكاة بحسب حجم هذه المعلومات، وتنتهي بتصميم البرامج التي ستنهض عليها المشاريع التي تخطط لإنشائها والتي تصب كلها في خانة القضاء على الفقر عبر برامج تؤهلهم للرفع من مستوياتهم المعيشية وإعادة تدوير هذه الأموال لتصل إلى المحتاجين بشكل ذي بعد إنساني، يرفع من قيمة وجودهم المعنوي وإلحاق الفقراء بمشاريع صغيرة كمصانع للنسيج، والخياطة وأخرى لإعادة تدوير الأشياء المستهلكة، كالملابس والجلود وغيرهما، وأيضاً لحوم الأضاحي والمتبقي من المأكولات بحيث يصرف الفائض من هذه العائدات بعد استقطاع رواتب العاملين منها، للتوسع في مشاريع أخرى. وستحقق هذه المشاريع الصغيرة التي ستشق طريقها لتصبح ذات يوم مشاريع كبيرة، نمواً مطرداً في عجلة التنمية، كما ستحقق اكتفاءً ذاتياً في المواد الاستهلاكية، وسيمتد هذا بدوره إلى قطاعات أخرى كالتعليم والصحة، التي ستدفع بدورها بعضاً من طاقاتها للإفادة من هذه المؤسسات من خلال التدريب والتعليم، كما ستوفر فرصاً تطوعية أخرى تقتص معاشاتها من ناتج العمل أو العوائد المادية، كما ستتيح هذه المنظمات أو المؤسسات غير الربحية المجال للقطاع الخاص بتبني دعم بعض من مشاريعها على سبيل المنح، فلتكن انطلاقتنا في هذا المضمار صائبة لنحقق مجتمعاً مدنياً لا مراء فيه، وتتحقق فينا الخيرية التي وصفنا بها ونراها تجسد في أماكن أخرى من العالم، فهل سنُمكن من ذلك؟ من يمنعنا؟