أعتقد جازماً أن من يستطيع اختيار الحاكم أكثر قوة وتأثيراً من الحاكم نفسه، وهذا يظهر بوضوح في المشهد السياسي المصري، وكذلك في تونس وسنلحظ هذا في ليبيا، قوة الإسلاميين في قدرتهم على اختيار الحاكم، لأن الأولوية بنظرهم لتأسيس كيانات قوية داخل الدولة تدين بالولاء لفضيلة المرشد، وقادرة على فرض الواقع الاجتماعي قبل السياسي، أما التغييرات والتحولات الكبرى في سياسات الدولة فهو هدف يأتي لاحقاً. كل من يتابع الحراك السياسي في بلدان “الفوضى” يدرك أن الجماعات الإسلامية ستؤسس واقعاً مجتمعياً وهي قادرة على هذا الشيء، لأنها استلمت قاع المجتمع الساخط منذ زمن وداعبت مشاعره، واحتوت انفعالاته واستطاعت أن تؤثر عليه، مهما ذهبت الجماهير يميناً أو شمالاً، فقياد البسطاء بيد الجماعة، باسم الله تارة، وباسم القضايا الكبرى تارة أخرى. وفي مصر حصل الإخوان على ما يريدونه، الموقع المريح الذي يعطيهم شرعية وحماية، ويجعلهم أصحاب حضور قوي بوجه من لديه الشرعية الدستورية، ولأنهم يعرفون جيداً أنهم لا يصلحون للحكم وأنهم سينجحون في المعارضة بل سيبدعون في الإزعاج والمناكفة بقوة الشرعية والأغلبية والحضور الشعبي، فهذا بنظرهم أولوية خصوصاً بعد أن حصل مرشحهم على النسبة الأعلى من الأصوات، والآن لا يهمهم كثيراً الفوز بالكرسي الذي سيشعلون الحرائق حوله لو فاز به الفريق أحمد شفيق. وصول الإخوان المسلمين للحكم أو للتحكم بالحكم، سيجعلهم قريبين جداً من فكرة التأسيس للخلافة الإسلامية حسب عقيدة الجماعة وأدبياتها، خلافة تجعلهم الحكام الربانيين، وإضافة للشرعية الشعبية، سيلبسون شرعية أخرى تلغي الخيارات، وتمكنهم من الجلوس على الكرسي إلى ما لا نهاية، ومن ثم تبدأ مرحلة أخرى أكثر خطورة وهي تصدير الخلافة، على غرار تصدير الثورة على طريقة أصدقائهم الملالي في إيران. ستكون جماعة الإخوان المسلمون القوة المؤثرة والمرجحة، وسيكون المعارض لحكمها وأحكامها معارضاً للدين كما يروجون، وهذا لا يصدقه البسطاء الذين لا يؤمنون بالتلون والسلوك الزئبقي في السياسة، والذي ينتهجه بمهارة، المتطرفون “الموديرن” الذين يتقربون إلى الله بالسياسة! هؤلاء “المتوضؤون” لإمامة الناس في البرلمان، بعد أن انتهت مرحلة نشاطهم من خلال المسجد، يعرفون جيداً أن الأهداف الإستراتيجية لا تنفذ بين ليلة وضحاها، فالأفكار لديهم تفرض باللين والنفس الطويل، فالعمل على جيل قادم من أبناء المجتمع، وليس هذا الجيل، فتربية الأتباع أسهل بنظرهم من تطويع الجماهير، بما لديهم من موروثات ورؤى تخالف الأهداف البعيدة للتنظيم. مصر اليوم لا تعيش ثورة بل ثأر في الميدان، واستئثار في البرلمان، أما الثائر المسكين الذي اغرورقت عيناه بالدموع فرحاً عندما تنحى مبارك، فهو الخاسر وسط ضجيج المستأثرين، وهذا لا يمنع أبداً من أن يرتدي المستأثر البرغماتي قبعات مختلفة ليقنع كل الأطياف بأحقيته، وبثوريته المصطنعة! ذات يوم سيصل فضيلة الرئيس إلى السلطة وبعد عشر سنوات وربما أقل سيصبح أميراً للمؤمنين، وقتها سيتمنى المصري البسيط ربع حرية، وربع ديموقراطية ولن يجد، وهذا لا يعني أن فترة مبارك ستكون بنظرهم أفضل من واقعهم، لكنهم سيلتمسون العذر لمبارك ونظامه عندما حرمت هذه الجماعة من “تديين” السياسة.