يدل المشهد العام في مصر على أن المعركة الرئيسة في الانتخابات النيابية التي ستُجرى في 28 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري تتعلق بتمثيل «الإخوان المسلمين» في البرلمان بعد أن حصلوا على نحو 20 في المئة من مقاعده في 2005. ولا يخفى أن تقليص هذا التمثيل هدف أساسي يسعى إليه الحزب الوطني الحاكم، الذي أعلن بعض قادته صراحة أن عدد نواب «الإخوان» في البرلمان الجديد سيقل، وأن تمثيل أحزاب المعارضة المشروعة سيزداد، في الوقت الذي يشيع الحديث عن صفقات في هذا المجال ولكن من دون دليل عليها. غير أنه قد لا يتيسر إخراج عملية تحجيم «الإخوان»، في برلمان 2010، أو إقصائهم منه، في شكل يبدو طبيعياً قدر الإمكان من دون تعاون بصورة ما بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة التي تعتبر أساسية وهي الوفد والتجمع والناصري. ويندرج هذا التعاون ضمن غاية أكبر هي محاولة إنهاء خلط ازداد في العقود الأخيرة بين السياسة والدين، ومكّن «الإخوان المسلمين» من أن يصبحوا التيار الأكبر بين أحزاب وقوى المعارضة في الساحة السياسية في مصر، كما في بلاد عربية أخرى. غير أن بلوغ هذه الغاية لا يتيسر من دون تنشيط الحياة السياسية عبر تحريرها من القيود الأكثر إعاقة لحركة الأحزاب والاتجاهات غير الدينية، أو انسحاب جماعة «الإخوان المسلمين» طوعاً من ساحة العمل السياسي لتركز على دورها الدعوي. إن غاية كبرى من نوع فك التداخل بين السياسة والدين لا يكفي لتحقيقها تقليص التمثيل البرلماني لجماعة «الإخوان المسلمين» التي قامت بدور كبير في ترسيخ هذا التداخل، أو حتى إقصائها كلياً من مجلس الشعب. وقد ثبت أن سياسة الإقصاء التي انتهجتها السلطات في مصر تجاهها في السنوات الأخيرة لم تحقق نجاحاً يُذكر، مثلها مثل سياسة الاستئصال التي اتُبعت في الفترة من منتصف الخمسينات إلى نهاية الستينات في القرن الماضي، وسياسة الاحتواء التي مورست في العقود الثلاثة التالية. وليس صعباً فهم لماذا أخفقت هذه السياسات على اختلافها البيِّن في وضع حد لنجاح «الإخوان» في تسييس الدين، مما أدى إلى ازدياد التداخل بين السياسة والدين، ذلك أن فك الارتباط بينهما يتطلب أجواء عامة مختلفة وقواعد للعبة أكثر ديموقراطية، وليس تغييراً في السياسة الرسمية تجاه «الإخوان» فقط. وما لم يحدث تغيير في هذه القواعد وتلك الأجواء، سيبقى التداخل بين السياسة والدين مستمراً، وسيظل في إمكان «الإخوان» وحركات إسلامية أخرى تديين السياسة في شكل مضطرد. والحد الأدنى في هذا التغيير هو التفاهم مع «الإخوان» على الفصل بين العمل السياسي والنشاط الدعوي، في ظل قواعد جديدة للعبة. فالاعتقاد بأن محاصرة «الإخوان» أمنياً يمكن أن تفرض عليهم الانسحاب من الفضاء السياسي، والتركيز كلياً في العمل الدعوى، يقوم على افتراض خاطئ هو أن هذه الجماعة نشأت دينية دعوية ثم انخرطت في العمل السياسي، وأن مؤسسها حسن البنا أدرك في أيامه الأخيرة خلال محنتها الأولى مغبّة ذلك التحول وندم عليه وتمنى لو أنه كان قادراً على أن يعيد الجماعة إلى سيرتها الأولى. ويعني ذلك أن ثمة رهاناً على أن تعي قيادة «الإخوان» الراهنة ما يعتقد البعض أن المرشد العام الأول أدركه إبان محنة الجماعة الأولى عندما تم حلها في كانون الأول (ديسمبر) 1948 ومحاصرتها. غير أن هذا رهان في غير محله، لأن ما ندم عليه البنا كان التحول صوب العنف المسلح، وليس باتجاه العمل السياسي. فقد كانت محنة «الإخوان» الأولى، وكذلك محنتهم الثانية في الصدام مع ثورة 1952، نتيجة اللجوء إلى العنف المسلح وليس بسبب النشاط السياسي الذي يعتبر لصيقاً بتكوينهم العقائدي. فقد امتزجت في هذه الجماعة الدعوة الدينية بالفكرة السياسية منذ اليوم الأول لتأسيسها، بخلاف اعتقاد شائع في أنها نشأت جمعية دينية ثم تحولت إلى العمل السياسي منذ مؤتمرها العام الخامس في نهاية عام 1938. فلم يكن ذلك العام نقطة تحول من الديني إلى السياسي، بل انعطافة أدخلت الجماعة في معترك السياسة الذي ذهبت فيه إلى أبعد مدى، ولم تكتف بوسائله السلمية بل أضافت إليها أدوات عنفية. فالتقسيم الزمني الصارم إلى مرحلتين متمايزتين قبل عام 1938 وبعده لا أساس له في شخصية حسن البنا وسيرته، ولا في نظرته إلى الجماعة التي قام بتأسيسها عام 1928. فكانت الدعوة الدينية عنده جزءاً لا يتجزأ مما اعتبره مهمته التاريخية، التي كانت سياسية قلباً وقالباً. كان البنا واحداً من كثر صدمهم إلغاء الخلافة الإسلامية، وخلطوا بين هذه الخلافة من حيث كونها نوعاً من الحكم ينشأ ويزول ويتغير، والإسلام الثابت المطلق. واختلط لديه الجزع لإلغاء الخلافة بالفزع مما بدا له خطراً يهدد الإسلام ويفرض العمل لإنقاذه. فلم تكن أهداف حسن البنا صغيرة وكبرت، بل الموضوع هو الجماعة التي اعتمد عليها لتحقيق هذه الأهداف التي كانت كبيرة منذ البداية. ولذلك يبدو خاسراً الرهان على وضع «الإخوان» تحت ضغط يدفعهم إلى العودة إلى سيرة أولى (دعوية تماماً) لا توجد إلا في أذهان أصحاب هذا الرهان. غير أنه إذا لم يكن وقف عملية تسييس الدين ممكناً، فقد يكون في الإمكان معالجة الخلط بين الديني والسياسي جزئياً. والسبيل الوحيد إلى ذلك هو رفع الحظر المفروض على جماعة «الإخوان» بعد التفاهم معها على أن تكون جماعة محض دعوية وأن يؤسس بعض قادتها وأعضائها حزباً يعمل بالسياسة – وليس بالدعوة – على مبادئها. وعلى رغم أن تجربة التمييز بين جماعة «الإخوان المسلمين» وحزب «جبهة العمل الإسلامي» في الأردن لم تنجح، فقد يكون استلهامها – وليس استنساخها – عاملاً مساعداً في وقف الازدياد المتواصل في خلط الديني بالسياسي في مصر، وليس تحقيق فصل كامل بينهما. وهذا هو أقصى المتاح في ظرف يجد «الإخوان» الساحة شبه فارغة أمامهم، حيث أحزاب وتيارات المعارضة الأخرى هزيلة ضامرة، والحزب الحاكم معتمد على أجهزة الدولة.فلا سبيل إلى معالجة معضلة اختلاط السياسي بالديني إلا تحرير السياسة المدنية التي خلق تكبيلها فراغاً توسعت فيه «خلطة» دينية - سياسية تم تركيب أهم محتوياتها في معامل «الإخوان المسلمين»، والباقي في كنف الدولة التي تلجأ إلى تديين السياسة أحياناً عند الضرورة.