جاء التوجيه الملكي الكريم بتنبيه الوزراء وحثهم على تيسير متطلبات المواطنين وإنجازها دونما تسويف ليجعل الوزير يهبط درجة من عليائه، أو لنقل إن المواطن سيصعد درجة بقدر يجعله والوزير على حد سواء مر علينا هنا في المملكة حين من الدهر كان فيه الوزير في الوزارات الخدمية تحديداً يملك حصانة ومهابة تحميه من النقد وتجنبه قر الكلام وحر الملام، وتمنع المواطن من التطاول على مقامه العالي كالتجرؤ وإبداء الملاحظات على وزارته لا سمح الله، فهو صاحب المعالي الذي لا يأتيه النقد من بين يديه ولا من خلفه. وأظن وبعض الظن اسم أن اسم الوزير لطول مكثه ومديد بقائه على كرسي الوزارة إضافة إلى منصبه الرفيع وما يدره هذا المنصب من امتيازات قد خلقت لدى الناس حالة من الرهاب والمخوفة، حتى كاد بعضهم يظن أن بعض الوزارات في ذلك الحين كانت مثل المحمية والإقطاع العائد لمعاليه، وهذا الخطل واللبس جاء نتاجا للتراكم الزمني الطويل على كرسي الوزارة بقدر خلق هذا الانطباع السلبي. لقد مر حين من الدهر حفظنا خلاله صور الوزراء وملامحهم وتقاطيع وجوههم وما قد يطرأ على أوزانهم، وقد توطنت نفوسنا على رؤيتهم يومياً في نشرات الأخبار التلفزيونية وعلى صدر الصفحات الأولى للصحف اليومية، وصرنا نشكك ونتوجس خيفة لو جاءت النشرة الإخبارية أو صدرت الجريدة بدون صورة معاليه خشية من أن يكون قد أصابه عارض لا قدر الله. كانت صلة المواطن بالوزير أشد التحاماً وأكثر اهتماماً من صلته بالأهل والمعارف، فإنك ترى الوزير في اليوم ربما لأكثر من مرة في حين قد لا تمكنك ظروف الحياة ودورة الرزق من رؤية الأقارب الأقرب إلا مرة في الأسبوع وربما الشهر، ومنهم من لا نراهم إلا في المناسبات الفصلية كالأعياد أو المناسبات الكارثية كالمرض الشديد أو العزاء، ولهذا كان على المواطن أن يحتسب الأجر وهو يرى الوزير في كل منعطف وكل منشور مرئي ومسموع ومقروء، ولا يجد ما يسوغ ذلك مما يمكن أن يعرف بصلة الوزراء مقارنة بصلة الأرحام. كان كرسي صاحب المعالي ثابتا لا يهتز ولا يرتعش، لا يهجره أو يتركه إلا بحكم الشديد القوي "هادم اللذات" الذي يغير كرسي الوزارات، ولهذا فمن كان على هذا النحو من الثبات والرسوخ فإن مجرد التفكير في ذمه أو نقده أو مساءلته إعلامياً يعتبر مجازفة تعبر عن التهور والسفه وعدم اللياقة. كان الوزير ماركة مسجلة، وعلامة فارقة في المجتمع، وإن قدر لوزير مع كمية انشغالاته أن يحضر مناسبة فرح أو زواج فذلك مما يزيد الفرح فرحاً ومما يجعل ذلك العرس مناسبة مشهودة تتحدث عنها الركبان على نحو يعلي من قيمة العريس وأهله والعروس وأهلها.. وبالمقابل فإن غلواء الحزن والكمد في أي عزاء أو نعي يشهده معاليه تنخفض إلى أدني درجات الحزن، فيكفي أن يغشى الوزير المكان لتنقشع الغمة وتسعد الأمة. كان كل ذلك لمّا كان الوزير يتيه في عليائه، يتبختر على كرسيه ولا يخشى إلا الموت، حتى قيل من باب التندر والتشنيع إنه قد وجدت معاملات محفوظة في مكتب أحد وزرائنا من أيام الدولة الأموية وإنه لم يتخذ في هذه المعاملات إجراء أو يبت في أمرها! كان مقتضى هذا الانطباع عند الناس - كما قلت - الفترة الزمنية الطويلة التي أسهمت في ترخيم وتضخيم وتفخيم اسم ورسم الوزير، لكن هذه الفخامة والضخامة خفت وطأتها في السنوات القليلة الماضية بعدما صارت فترة مكث الوزير محددة بأربع سنوات قابلة للتمديد. لقد جاء التوجيه الملكي الكريم الذي صدر مؤخراً بتنبيه الوزراء وحثهم على تيسير متطلبات المواطنين وإنجازها دونما تسويف ليجعل الوزير يهبط درجة من عليائه أو لنقل على نحو آخر فإن المواطن سيصعد درجة بقدر يجعله والوزير على حد سواء. إن ظهور هذا التوجيه الملكي سيجعل من المواطن عبر كل الوسائل والوسائط الإعلامية رقيباً عتيداً من خلال المجاهرة بالمتطلبات والاحتياجات التي كلف بها الوزير في حق الوطن والمواطن، ولو بدر أي تقصير أو إهمال أو ترفع من الوزير في حق من كلف بشرف خدمتهم من المواطنين فإن للوطن ملكا يحميه. لقد أعذر خادم الحرمين الشريفين كل الوزراء الذين يحملون على عواتقهم حقائب الوزارات الخدمية المعنية بشؤون الناس من صحة وزراعة وتعليم وغيرها. وقد دأب الملك عبدالله بن عبدالعزيز يحفظه الله على المكاشفة والمصارحة والنصح والإخلاص في كل ما يخدم رفاهية المواطن ورفعة هذا الوطن، حتى صار المواطن يتطلع لأن تكون الخطوة القادمة إعطاء الصلاحية لمجلس الشورى ليكون من حقه مساءلة الوزير المقصر والرفع باقتراح سحب الثقة منه وإقالته. كان الوزير دائماً هو صاحب المعالي.. لكن في عهد خادم الحرمين الشريفين يحفظه الله الذي يولي المواطن والوطن كل اهتمامه وحرصه بتنا نشعر أن "ما عالي" إلا المواطن. رفع الله قدر مليكنا المخلص في الدارين وأمد بعمره وأعزه بما ينفع هذا الوطن الحبيب وأهله.