عندما أهدر الإمام الخميني بفتوى غاضبة دم (سلمان رشدي) مؤلف رواية (آيات شيطانية )، ارتفعت مبيعات تلك الرواية بشكل متوحش , ووصلت توزيعاتها إلى عشرات الملايين , وترجمت إلى الكثير من لغات العالم ( منها العربية والفارسية) ! فتوى الخميني قامت بجزء كبير من هذه الحملة الدعائية , لرواية أجمع النقاد على أنها ضعيفة فنيا وبنائيا وأسوأ روايات رشدي , ولكننا نعرف بأن القيم الإبداعية والجمالية ليست هي المؤشر الحقيقي على رواج العمل الفني . رواية (بنات الرياض) أتتها الحملة الترويجية على جناح فتوى قادمة من (كهوف تورا بورا) آنذاك فتداخل الصراع الديني والاجتماعي مع الذعر من خدش التابو، وارتفعت أصوات الرقابة الوصائية المطالبة بحجب الرواية , لتخلق حالة من الفضول العارم في المجتمع أسهمت بشكل كبير في رواج الرواية. أحدث مثال هو أن أحد شيوخنا الأفاضل حُجب كتاب له أثناء معرض الكتاب الأخير , ولكي نكون أكثر وضوحا ودقة , سنقول إن الرقابة قد منعت نسخته الورقية فقط , لأن الكتاب أصبح يوزع بكثافة داخل الكثير من نقاط التوزيع على مواقع الإنترنت , ومنها موقع الشيخ نفسه . ونعود إلى فلسفة الوصاية والتسلط الفكري لدى من يمارسون الرقابة والمنع والحجب , فهل هي قصور في عملية الوعي ، أم عدم استيعاب؟ حقيقة أن اقتناء كتاب لايعني أن صفحات الكتاب ستدلق محتواها في رأسي وتتلف دماغي , وأنا مستسلم لها دون تحرّ أو نقد , أو حتى رفض ومقاومة. فالقارئ يقتني الكتب ليس لأنه من الهشاشة بحيث يتصدع وينصاع لمحتواه فورا, القارئ يقتني الكتاب من باب الفضول , ومن ثم قد يعزف عن المحتوى , أو قد يشمئز منه , أو يأسف على الوقت الذي أهدره في أسطر تافهة , أو قد يكوّن موقفا رافضا لمحتواه , ولكنها الإشكالية الأبدية للرقابة التي تصر على أن تمارس جميع أدوارها الوصائية بمعزل عن العالم ,وكأنها ذلك الرجل القروي الذي قالوا له : يا أبا فلان إن أولادك يذهبون للقرية المجاورة حين تنام وينخرطون في حلقات لهوها وغنائها ومعازفها , فقال : أدري , لكن دعهم طالما أنهم لا يدرون أنني أدري. وهذا بالضبط الدور الذي تمارسه الرقابة لدينا مابرحت تقوم بأدوارها البيروقراطية التي كانت تمارسها منذ خمسين عاما بشكل منقطع عن محيطها , فمازالت تطلب من الكاتب أن يحذف مقطعاً , أو يغير كلمة , أو يغير العنوان , وفي النهاية تطلب منه تعهدا خطيا بأن توزع محلياً النسخة المعدلة , ولابأس أن ظلت النسخة الأصلية للتوزيع الخارجي , وأيضا لابأس أن تدخل أثناء معرض الكتاب في الرياض . وكأن إدارة المطبوعات تظن أنها بهذا قد سيطرت على الوضع وأن من الممكن أن يتعايش الإعلام الرسمي والإعلام الآخر في نفس الوقت كتوأمين إلى الأبد , ولكننا نعرف بالطبع أن هذا مستحيل ولابد أن ينمو توأمٌ ويزدهر على حساب الآخر فأي جهة إعلامية رأس مالها ومصدر ديمومتها هي المصداقية والموضوعية وثقة الجماهير , فإنْ فقدت هذه المقومات التي هي بمثابة شريان الحياة للمؤسسة الإعلامية ,عندها سرعان ماتضمر وتشحب وتتلاشى، وتتحول إلى هيكل صوري أجوف يمارس أدواره بمعزل عن الإحساس بالتبدلات في محيطه , وأن حجب كتاب هو أفضل حملة ترويجية ينالها . الرقابة داخل العصر المعلوماتي , تبدو كأحفورة من العصر الطباشيري , وتعلم أن الجميع بات يذهب إلى القرى المجاورة للحصول على زادهم المعلوماتي , ولكن هي تصر على قول القروي: ... دعهم طالما أنهم لايدرون بأنني أدري.