أكثر من 25 مليون ريال، وأكثر من مليونين ونصف مليون زائر؛ أرقام لم تكن في الحسبان، جاءت بمثابة المحصلة المريحة لمعرض الرياض الدولي للكتاب بدورته السادسة، الذي شهد خلال عشرة أيام، وحتى الرمق الأخير، إقبالاً عارماً وحشوداً زحفت من كل فج عميق لتشهد منافع دور النشر وتقطف من ثمارها اليانعة، جاءت هذه النتيجة مخيبة لكل الدعوات الحمقاء، التي امتلأت بها مواقع التواصل الاجتماعي، وداهمت محمولاتنا برسائل تنادي للثبات على الجهل والتخلف، هذه الأصوات التي زاحمتنا خلال الفترة الأخيرة بمؤامرة رخيصة عبر حملة إعلامية صاخبة دشنت بمحاولة ضرب المثقف وتشويه أخلاقه، ثم هم يحاولون صد الناس عن معين الثقافة الأسمى «الكتاب»، هذه الأصوات المغرضة لا يسعها الوقت للقراءة، لأنها تجد بغيتها في الخطب المستفزة والمواعظ المحرضة على كل ما لا يتماشى مع وعيها المنغلق على أوراق صفراء باهتة لا تباركها طبيعة التحولات العالمية والعربية على وجه الخصوص. ألم يعلم هؤلاء بأن نصيب العالم العربي الوافر من التخلف الذي يجب أن نعترف به ما هو إلا نتيجة للنقص المعرفي الحاد الذي تشكو منه المكتبة العربية، هذا ما كشفه التقرير، الذي تحملت مسؤوليته هيئة الأممالمتحدة، حول التنمية البشرية الإنسانية في العالم العربي، الذي جاء حافلاً بالإحصاءات ذات الدلالات العميقة، منها النقص الحاد في إنتاج الكتب في البلدان العربية، الذي لا يتجاوز بحال من الأحوال «1,1 في المئة» من الإنتاج العالمي، على رغم أن العرب يشكلون نحو 5 في المئة من جملة سكان العالم، كما يشير التقرير الأممي إلى حقيقة مرة، مفادها أن عدد ما يُطبع من الكتب الأدبية مثلاً لا يتجاوز 1000 أو 2000 أو 5000 نسخة على أحسن الأحوال للكتاب الواحد، يقسم هذا العدد على 300 مليون عربي في 22 دولة عربية، فما دامت هذه حال الكتاب الأدبي المحبب إلى النفس، فماذا ستكون حال الكتب الأخرى ذات التخصصات العلمية؟ ثمة هوة واسعة تفصلنا معرفياً عن الأمم الأخرى، هذه الحقائق تصيبنا بالذهول المتبوع بالكمد، في الوقت الذي ينفر فيه طائفة من الناس بدعوات غبية وسفيهة لمقاطعة الكتاب، ليحكموا طوق الجهل والتخلف على عقول الناس، ليقودوهم كالأبقار إلى سواقيهم الناضبة، في معرض الرياض للكتاب السادس كنا أمام اختبار جديد وتجربة مختلفة، فما كان يحرض من أجله ويستخدم وسيلة لترويع القلوب المطمئنة تلاشى تماماً فور أن حضرت الإرادة المختلفة؛ الإرادة تحت مظلة الإدارة الواعية والحكيمة المدفوعة بالمسؤولية؛ المسؤولية المتكئة على قوة حارسة جسدها رجال الأمن الذين رأيناهم بين أروقة المعرض بكثرة تنضح وجوههم بالسكينة، فتبث في قلوب المرتادين حال من الطمأنينة، هذه التجربة أثبتت بأن الاستسلام لقوى الضغط العشوائية تنتج بدورها حال من التمرد، متى أخلي لها السبيل ستقتحم الأروقة والردهات، ولو من أبواب خلفية، وما حدث في معرض الكتاب هذا العام هو إحكام السيطرة على المداخل الرئيسة والجانبية، مع الانتشار الأمني داخل المعرض، بالضبط هذا ما نريده تماماً مع كل فعاليات الفرح التي لا يباركها الممانعون للفرح. كما رأينا رجال هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في اتساق تام وتناغم مع أجواء المعرض العامة ؛ متحلين بالسكينة والموادعة ورباطة الجأش على غير عادتهم فيما عهدناه منهم في السنوات الماضية , فللإدارة الحكيمة والواعية تحت مظلة الشيخ الدكتور عبد اللطيف بن عبد العزيز آل الشيخ،ملامحها الأبرز على سلوكيات رجاله الذين احتذوا سياسته وتقلدوا توجيهاته , فبتنا بين أجنحة المعرض متخففين من الوشايات التي كنا نخشى أن تلحق بنا ظلما وعدوانا , وتحت أنظار الملأ التقينا يبعضنا ذكورا وإناثا وتجاذبنا أحاديثنا بمسؤولية تامة دون ان يقتنصنا المغرضون ويلتقطوا لنا الصور الوثائقية الملبوسة بحالة فسق ومجون , لم تحضر تلك العدسات المسكونة بالشهوات التي لا ترى الأنثى سوى أنبوبة غاز والرجل عود ثقاب , لم تترصدنا الأعين التي زرعت عنوة في بهو فندق ماريوت تلك التي عندما أعوزتها الحيلة فبركتها بصور مقتصة من احتفالية ثقافية خارجية , لتنسج حولها سيناريو طويل حركت بما يشبه السحر أو لنقل غسيل الدماغ لتبدو الصور الساكنة كشريط سينمائي مشوب بكل الموبقات أغرت الشانئين بعدما صدقها الفارغون , في معرض الكتاب اجتمعنا وجلسنا واحتسينا القهوة والشاي بقلوب نظيفة , فلم يسجل أدنى محضر , ولم تعلق بنا التهم , كما لم نفسَّق أو «نعلمن أو نلبرن « والسؤال هنا مع علامة تعجب كبيرة أين اولئك المحتالون المفبركون ؟ لماذا خبت أصواتهم ؟ أين هو الشيخ الذي كان يبث الأعين ويلتقط المشاهد ويحفظها في أضابيره المخابراتية .في اليوم الأخير من المعرض هنأنا أنفسنا بهذا المعرض الذي اكتمل بلا منغصات , وفرحنا بهذه المقاطعة والمقاطعين الذين كفونا شرورهم لتتدفق الملايين تتسابق على الإصدارات الجديدة من الكتب معلنة الهزيمة لقوى التخلف ,لقد أثبت المجتمع السعودي بأنه غير مرتهن لها , وأنه مسكون بهاجس الحرية والانعتاق , وأن كان ثمة كلمة شكر فموجهة لوزير الثقافة الدكتور عبد العزيز خوجه الذي لم يأخذ كفايته من الراحة بعد العملية الجراحية التي أجريت له , لينهض بكل قواه ويمارس مسؤولياته الكاملة لاستكمال تجهيزات المعرض , والشكر الجزيل الآخر يوجه لرجال الأمن الذين رأيناهم يؤدون دورهم بكل كفاءة ومسؤولية في تأمينه ,والشكر الأخير والمهم لرئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الشيخ الدكتور عبد اللطيف بن عبد العزيز آل الشيخ، ورجاله المخلصين الذين نزعوا من صدورهم كل الضغائن المحتملة تجاه بعض التصرفات غير المقصودة , وانفتحت عقولهم لفهم سلوك الناس وتصرفاتهم , في الساعة الأخيرة رأيت الناشرين يصافحونهم بوداع حميمي مغموس بالشكر والامتنان..أدام الله علينا وعليكم نعمة العقل والدين, وجنبنا وإياكم السفه والجهل والحمق. * كاتب سعودي.