. تُعرف الصحافة أو (مهنة المتاعب) كما يحب البعض تسميتها، على أنها المهنة التي تقوم على جمع الأخبار، وتحليلها والتحقق من مصداقيتها، ومن ثم تقديمها للعالم بالطريقة اللائقة. ويُقال إن أصل الصحافة يعود إلى عصر الحضارة البابلية، التي كانت تقوم بتعيين من يعمل على تدوين الأحداث اليومية، وتوثيقها. كما أن الرومان قد استحدثوا أنظمة كتابة القوانين والأحكام القضائية، وغيرها من القرارات الصادرة عن مجلس الشيوخ، ليتم عرضها أو الإعلان عنها للشعب وفق نظام الإعلان المقروء. فيما اعتمد الفينيقيون على الطباعة القالبية بعد اختراع الكتابة على ورق البردي. وذلك من خلال نقش الكتابة على لوح خشبي وتفريغ ما حول الكتابة لتبدو الأحرف بارزة، لتدهن بعد ذلك بالأصباغ، ومن ثم يتم استخدامها في الطباعة على الأوراق أو الألواح الخشبية وغيرها. وقد اشتهر الصينيون بهذا النمط من الطباعة إلى أن تم اختراع الحروف الفخارية التي ساهمت في دفع عجلة الطباعة وتوثيق ونقل المعلومة. لكن أشهر ما يتحدث عنه خبراء القانون هو (قوانين حمورابي) المكتوبة ما بين (1790-2000) قبل الميلاد في منطقة ما بين النهرين أو ما يُعرف ب(بابل). والتي تُعد أول الشرائع المكتوبة خطياً والمعلنة بين الناس بهذه الطريقة المنسقة. ويصنفها علماء التاريخ على أنها أول صحافة في التاريخ. وتحاكيها اليوم الصحف والمنشورات التي بين أيدينا. وقد استمرت الصحافة في شق طريقها بأشكال مختلفة حتى ظهرت الوسائل الحديثة لنقل المعلومة والطباعة. وكانت أهم لحظاتها التاريخية هي اختراع الطباعة الحديثة بمدينة (ماينز الألمانية) على يد (يوحنا غوتنبيرغ) في مطلع القرن الخامس الميلادي. وتمخض عن ذلك النقلة النوعية الهائلة جداً لتاريخ التدوين والكتابة والتوثيق والنشر. وكانت الصحافة المكتوبة أكبر المستفيدين من هذا الاختراع العظيم، وقد عرفت الصحافة على مر تاريخها الطويل الكثير من القمع ومحاولات التحجيم. وخاضت حروباً نضالية مُشرفة ضد متعسفي لغة الوضوح والمشاركة قل أن تجد مثيلاً لها في كل ورقات التاريخ الإنساني. حتى أضحت الصحافة رئة العالم الحقيقية التي تتنفس من خلالها الشعوب، وقدمت على مر تاريخها صورة المشهد وتفاصيل الأحداث. وتحاول جاهدة رفع معاناة الشعوب، وتقديم الوجه الأجمل للإنسانية. وأنا موقنٌ بأن الصحافة التي تتعالى على شريحة الجمهور الأوسع، هي صحافة عرجاء على الأرجح بفقدانها لروح التماهي مع الهموم الشعبية. فالصحافة برأيي يجب أن تظل جزءاً حيوياً من الحياة الشعبية الإنسانية. وحليفاً أصيلاً لهموم الشارع بأكمله. لأنها حين تتحول إلى صحافة نخبوية ستفقد الكثير من الوهج الذي يميزها. الأسبوع الماضي قررت أن أصطاد على طريقتي رئيس تحرير هذه الصحيفة (الوطن) الأستاذ (طلال آل الشيخ)، ضيف برنامج المنتدى الذي يُعده ويقدمه بالقناة الثقافية السعودية زميلي الإعلامي الأستاذ أحمد التيهاني، لأستطلع عن قرب ماهية الصحافة التي يؤمن بها هذا الشاب الأنيق دمث الأخلاق، الواثق من أدواته، والقادم إلى عوالم صحيفة الوطن. وللحق فقد أدهشني بعفويته وتماهيه مع المحاورين وأُطروحاتهم بموضوعية يفتقد إليها الكثيرون من مجايليه، وسررت كثيراً بلغة الشباب التي كان يؤكد عليها خلال حديثه في اللقاء، ونظرته لمفهوم الصحافة التي يرى أنها جزء لا يتجزأ من هموم الشارع (الشعب) ويومياته. وتأكيده على روح الفريق الواحد وضرورة التشارك في صنع الأجمل دائماً وفق منظومة عمل متجانسة تمنحك أفقاً بعيداً للإبداع. وحين ينطلق المرء من ثوابت يؤمن بها حتى الرئتين، سيكون النجاح حليفاً وصديقاً له، طالما تلازم مع القناعات بالحقوق الإنسانية ولغتها وأبجدياتها. لأن الصحافة برأيي هي إخبار وتثقيف وتعليم وعمل ومحاولات جادة وحقيقية لنشر الوعي وتكريسه بين أفراد المجتمعات على اختلافها. ففي الواقع لم تُخلق الصحافة لتكون مجرد ملصقاتٍ دعائية، أو أوراقاً استفزازية، أو منشورات فضائحية. مهما تذرع البعض بارتفاع أو انخفاض الأسقف، فالمهارة تستطيع أن تجد لنفسها طريقاً في كل الاتجاهات. ولأن غير ذلك في نهايته لن يشكل إلا عبئاً على اليوميات المختلفة لإنسان الشارع المتلقي، وهو الذي ينتظر أن تساهم الصحافة في التخفيف من معاناته، وتبادر لحل مشكلاته الصغيرة منها قبل الكبيرة. إنها لغة جميلة يجب أن تُعبر عن الواقع، لا التخيل والتنظير المتعالي على المتغيرات المعاشة في عالم الواقع، منطلقة من إيمانها بدورها التنويري العريض. وتقدم للإنسانية ثوبها الأبيض على الدوام. وأتمنى على هذا الفريق الشاب ألا يُغفل الجانب الإحصائي في مسيرة العمل، وأن يعتمد التوثيق المبني على النتائج الإحصائية الحقيقية لتقييم أدائه العملي وحكمه عليه. فهي كما ينصح الخبراء الطريقة الأكثر نجاعة لتعرف أين أنت وأين تقف أقدامك بدقة.