بادئ ذي بدء، أود أن يعرف القارئ الكريم أنني لست من أعداء رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، ولا من المتحاملين على الحكومة التركية، بل أؤيدها في كثير من سياساتها، ولكني أيضًا لم أكن يومًا من الأيام من الأبواق والمطبلين، وما أقوم به ما هو إلا قراءة المشهد الذي أراه أمامي ومحاولة فهمه ثم نقله إلى القارئ العربي مع شيء من التحليل من وجهة نظري. وهذا ما سأفعله أيضًا في هذا المقال. إن من أخطر الأمراض التي تصيب الأحزاب السياسية الحاكمة أن تحيط بها مجموعة من المنتفعين والمطبلين والأبواق لتحجب عنها نبض الشارع وآراء الناخبين، وتزين لها أعمالها، وتبرر لسياساتها الخاطئة، وتستر إخفاقاتها، وتصبح في بعض الأحيان أكثر ملكية من الملك نفسه، من أجل التزلف والتقرب للحكام. ومن أسباب نجاح حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا عدم انقطاع اتصاله بالشارع التركي لجس نبض الناخبين ومعرفة آرائهم حول مختلف القضايا التي تهم المواطنين حتى لا تتعارض القرارات والقوانين مع التوجه الشعبي العام، وهو ما ضَمِنَ لحزب أردوغان زيادة نسبة التأييد له وعدم تآكل شعبيته خلال سنوات الحكم، إلا أن هذا النجاح لم يمنع من تشكل مجموعة المطبلين والأبواق من المنتفعين وأصحاب المصالح الشخصية حول حزب العدالة والتنمية تعرضه لخطر الإصابة بالعمى السياسي والابتعاد عن الشارع. ومنذ تأسيسه في 14 آب (أغسطس) 2001 ترك حزب العدالة والتنمية بصماته على السياسة التركية، وتعززت قوته يومًا بعد يوم، على الرغم من محاولات القوى الانقلابية للإطاحة به، وجميع المؤامرات التي حيكت ضده، وبعد فوزه في الانتخابات البرلمانية في الثالث من تشرين الثاني (نوفمبر) 2002 بأغلبية ساحقة شكَّل الحكومة وحده، ومن ذاك التاريخ حتى الآن، أي ما يقارب عشر سنين، هو الحزب الحاكم في تركيا، وأصبح اليوم وسائل إعلام للحزب الحاكم وكتاب ورجال أعمال وأكاديميون وبيروقراطيون وهَلُمَّ جرَّا. وهكذا اجتمع في حزب العدالة والتنمية والأوساط المقربة منه الفاسدون والمنافقون مع المخلصين، يجمعهم الولاء التام للحزب الحاكم، تلك الصفة التي يولي لها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان اهتمامًا بالغًا، حيث يقال إنه يرفض إعفاء أي مسؤول من رجاله عن منصبه لمجرد وجود انتقادات موجهة إليه، مهما كَثُرَت تلك الانتقادات والشكاوى، ويحميه إلى النهاية وفاءً لولائه وإخلاصه. ولا شك في أن الوفاء من الخلال الحميدة وشيم الكرام، ويجعل المسؤول يشعر بنوع من الطمأنينة في أثناء أداء مهامه، إلا أنه في هذا الموطن سكين ذو وجهين يقطع الطرفين، وقد يؤدي إلى حماية الفاسدين والفاشلين عن المساءلة والمحاكمة بحجة أنهم موالون ومخلصون للحزب الحاكم وزعيمه. المطبلون والأبواق يدافعون عن سياسات حزب العدالة والتنمية بشراسة، دون الالتفات إلى كونها صحيحة أو خاطئة، ويهاجمون المعارضين بلهجة جارحة تصل شدتها في بعض الأحيان إلى مستوى السب والشتم وحتى القذف والاتهام بالعمالة، ما يؤدي إلى نفور المنتقدين من الحزب الحاكم، كما أنهم لا يجدون غضاضة في التلون وفق تغير موقف حكومة أردوغان. فعلى سبيل المثال كانوا يحاولون إقناع المواطنين بمدى صحة الموقف التركي من الثورة الليبية في بدايتها حين رفض أردوغان التدخل العسكري في ليبيا للإطاحة بنظام القذافي، وقالوا إن الدول الغربية تسعى من خلال التدخل إلى احتلال ليبيا ونهب ثرواتها وما إلى ذلك من الحجج، ثم انقلبوا على هذه الأدبيات بعد أن غَيَّرت الحكومة التركية موقفها من الثورة الليبية، وشاركت تركيا في التدخل العسكري في ليبيا ضمن قوات الناتو، وحينها رأوا أن التدخل العسكري ضروري لحماية المدنيين، وأصبح هذا الموقف الجديد هو عين الصواب لدى المطبلين. وجود أردوغان على رأس حزب العدالة والتنمية في ظل غياب منافس له، نرى هؤلاء المنتفعين والمطبلين والأبواق يُبْدُون موحَّدين، ولكن أردوغان أكد أنه لن يترشح في الانتخابات المقبلة، وكثير من أقطاب الحزب الحاكم لن يكونوا جالسين على مقاعد البرلمان بعد نهاية الفترة البرلمانية الحالية؛ لأن النظام الداخلي لحزب العدالة والتنمية لا يسمح لأعضائه بالدخول إلى البرلمان لأكثر من ثلاث دورات نيابية متتالية. وتنتهي فترة عبد الله جول في رئاسة الجمهورية في عام 2014، والانتخابات البرلمانية في عام 2015، ولكن قد يتم تقديم موعدها إلى عام 2014 لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية معًا، وهذا يعني أن تركيا مقبلة على تغيرات ومرحلة سياسية جديدة ستتشكل ملامحها خلال سنتين. ومن المنتظر أن يترشح أردوغان لرئاسة الجمهورية ليخلف وراءه منافسة شديدة على خلافته في حزب العدالة والتنمية. وفي خِضَمِّ معركة الصعود على كرسي رئاسة الحزب الحاكم، التي ظهرت بوادر اندلاعها من الآن، سيصطف المنتفعون والمطبلون والأبواق خلف الساعين لتولي هذا المنصب؛ ليمارس كل واحد منهم مهمة التطبيل والترويج هذه المرة لصالح المرشح الذي يؤيده، وهكذا سيصبح رجال أردوغان رجال فلان أو علان. هل يؤدي الصراع على خلافة أردوغان إلى انقسام حادٍّ في صفوف حزب العدالة والتنمية أو الانشقاق وتقسيم الحزب؟ الأيام القادمة سوف تخبرنا جواب هذا السؤال، ولكن المؤكد أن تصفية الحسابات مع بعض الأطراف المؤيدة للحكومة التركية والمؤثرة في الساحة السياسية قد بدأت لتمهيد الطريق إلى الخوض في المعركة الكبرى.