في الأسبوع الماضي كان الموقف السعودي مما يجري في العالم العربي على خلفية الثورات الشعبية من بين أهم التطورات التي حظيت باهتمام إعلامي واسع. كان من الطبيعي أن أول من أعلن هذا الموقف هو الملك عبدالله بن عبدالعزيز في مناسبتين منفصلتين. كانت الأولى عندما استقبل ضيوف مهرجان الجنادرية، ظهر يوم الجمعة العاشر من شهر شباط (فبراير) الجاري. حينها ارتجل الملك كلمة أمام الحضور. وقد اختار هذه المناسبة ليعلن موقف المملكة من «الفيتو الروسي» في مجلس الأمن. حيث قال في كلمته «يا إخوان نحن في أيام مخيفة.. مخيفة، ومع الأسف الذي صار في الأممالمتحدة، في اعتقادي هذه بادرة ما هي محمودة أبداً.. الحادثة ما تبشر بخير، لأن ثقة العالم كله في الأممالمتحدة.. اهتزت.» ثم أضاف: «الدول مهما كانت لا تحكم العالم كله أبداً أبداً، بل يحكم العالم العقل، يحكم العالم ... الانصاف من المعتدي...». ومن الواضح أن الملك أراد بهذه الكلمات غير المباشرة أن يبعث برسالة إلى موسكو، وموقفها من مبادرة الجامعة العربية حيال الوضع في سورية. بعد ذلك بثلاثة عشر يوماً اتصل الرئيس الروسي، ديميتري ميدفيدف، بالملك، للحديث عن الأزمة السورية. وبحسب وكالة الأنباء السعودية أبدى الرئيس الروسي وجهة نظر الحكومة الروسية مما يجري في سورية. فأجابه الملك «بأن المملكة لا يمكن إطلاقاً أن تتخلى عن موقفها الديني والأخلاقي تجاه الأحداث الجارية في سورية...». وهذه جملة تتضمن رداً على ما يبدو أن ميدفيدف طلبه من الملك أثناء المكالمة. ومن المعروف أن أحد أهم مآخذ روسيا على المبادرة العربية أنها تطالب الرئيس السوري بتفويض صلاحياته لنائب الرئيس، تمهيداً لمرحلة انتقالية، أي أنها تطالب بتنحي الرئيس السوري. ربما أن الرئيس الروسي طلب مساعدة الملك في إحداث تغييرات في المبادرة العربية بحيث تكون أقرب إلى الرؤية الروسية، لإعادة عرضها على مجلس الأمن. وتتلخص هذه الرؤية في أن الإصلاحات المطلوبة في سورية يجب أن تأخذ مجراها بقيادة الرئيس بشار الأسد. وهذا يتناقض ليس فقط مع المبادرة العربية، بل مع موقف الشارع السوري الذي يطالب بتنحي الرئيس. وهو ما يباعد كثيراً بين الموقفين السعودي والروسي. ثم يضيف الملك معاتباً الرئيس الروسي بقوله: «كان من الأولى من الأصدقاء الروس أن قاموا بتنسيق روسي - عربي قبل استعمال روسيا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن». وكلام الملك هنا يؤكد أنه لم يكن هناك تواصل بين الجانبين العربي والروسي قبل الذهاب إلى الأممالمتحدة. والسؤال: هل هذا صحيح؟ ولماذا لم يحصل هذا التواصل؟ هل تقع المسؤولية في هذه الحالة على الروس وحدهم؟ هناك سؤال آخر يفرض نفسه: هل قام العرب بالتنسيق مع روسيا (والصين كذلك) قبل بلورة المبادرة العربية، والمصادقة عليها في مجلس الجامعة العربية؟ اللافت في المحادثة الهاتفية بين العاهل السعودي والرئيس الروسي هو ما ختم به الملك حديثه، بحسب وكالة الأنباء، بقوله: «أما الآن فإن أي حوار حول ما يجري لا يجدي.» لماذا لا يجدي؟ الأرجح أن الملك يشير إلى أن حجم البشاعة التي وصلها الحل الأمني في سورية، إلى جانب سقف مطالب الثورة هناك، كل ذلك لا يترك مجالاً لحوار مع النظام. وبالتالي فإن دعوة روسيا للحوار في سورية بين المعارضة والنظام قد تجاوزتها الأحداث. وهنا يتضح أن الموقفين السعودي والروسي من الأزمة السورية متعارضان تماماً. والأرجح أن هذا التعارض كان واضحاً أثناء المحادثة الهاتفية للطرفين، مضاف إليه «الفيتو الروسي»، ولذلك جاءت جملة الملك بعدم جدوى الحوار حاسمة. أي أن الملك يرى أن وقت الحوار قد انتهى، ولم يعد هناك وقت إلا للفعل. وتتأكد هذه الرؤية بشكل أكثر وضوحاً ومباشرة على لسان وزير الخارجية، الأمير سعود الفيصل، أثناء مؤتمر «أصدقاء سورية» الذي انعقد في تونس، يوم الجمعة الماضي، إذ شدد الفيصل على أنه لم يعد هناك من حل في سورية إلا «نقل السلطة طوعاً أو كرهاً»، وأعلن احتجاجه على عدم فاعلية قرارات مؤتمر أصدقاء سورية، قائلاً إن «النظام السوري فقد شرعيته، وأصبح أشبه بسلطة احتلال». وهذا كلام لافت في قوته، ومباشرته، بل وفي جدته أيضاً. لم يحدث من قبل أن اتخذت المملكة موقفاً علنيا ًبهذه القوة والمباشرة ضد أي نظام عربي. بهذا الموقف تكون المملكة قد قطعت كل خطوط الرجعة مع النظام السوري. واللافت مرة أخرى أن هذا الموقف يأتي ضد النظام السوري تحديداً، وهو النظام الذي كانت تربطه بالمملكة علاقة تحالف دامت 30 سنة، حتى عام 2000 عندما تولى بشار الأسد الحكم خلفاً لأبيه الراحل حافظ الأسد. يؤكد الموقفان السعودي والروسي أن الصراع الإقليمي على سورية عاد من البوابة الخلفية، التي عمل الرئيس حافظ الأسد على إغلاقها. والمحزِن أن الهدف النهائي لهذا الصراع على سورية ليس سورية نفسها. قبل 1967 كان الهدف مصر. والآن الهدف هو إيران. بدورها تستخدم روسيا سورية ساحة، لهدف ثالث، الصراع مع واشنطن وأوروبا الغربية. وهذا ما يجب أن يؤخذ في الاعتبار من الجامعة العربية، ولا سيما السعودية. صحيح أن موسكو مقبلة على انتخابات رئاسية، وأن بوتن يريد رفع شعبيته بين الروس. لكن روسيا منزعجة جداً من أنظمة الصواريخ التي تنشرها واشنطن في أوروبا الشرقية وتركيا. هي تعتبر أن سقوط النظام السوري يكمل الحصار الأميركي الأوروبي حولها، ولا سيما بعد سقوط نظام العقيد القذافي في شمال أفريقيا. تخشى روسيا من عواقب نجاح الثورة السورية. فتداعياتها قد تنتقل إلى إيران، وهي التي عرفت ما يشبه الربيع الفارسي عام 2009. وفي حال انتقال تداعيات الربيع العربي إلى إيران، مع اقتراب طالبان من السيطرة على أفغانستان، وظهور حركات إسلام سياسي في جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، كل ذلك يجعل من احتمال انتقال تداعيات الربيع العربي إلى حدود روسيا ممكنة، بل مخيفة. هل يعني هذا أن الموقف الروسي من الثورة السورية مبرّر؟ مخاوف روسيا مبررة. لكن طريقتها في المعالجة مدمرة. وقوفها ضد الثورة السورية لن يقضي على هذه المخاوف، بل الأرجح أنه سيحوّلها من مخاوف إلى وقائع على الأرض. تفترض روسيا أنها بموقفها تستطيع تصليب موقف النظام، وتزيد من قدرته على المقاومة والبقاء في السلطة. وهذا نوع من الوهم. هي ترتكب خطأ قاتلاً بوقوفها مع نظام دموي ضد شعب يتعرض لحملة دموية بشعة. عزلة النظام السوري تزداد محلياً وإقليمياً ودولياً. كان بإمكان روسيا أن تكون أكثر واقعية، وأكثر قرباً من مطالب الشعب السوري. على الناحية الأخرى، الموقف السعودي صحيح من الناحيتين السياسية والأخلاقية. لكنّ طريقته وأداءه السياسي لا يتناسب مع مضمون الموقف، ولا مع أهدافه. ينبغي التواصل، وبشكل مكثف مع روسيا والصين. على السعوديين والعرب أن يجيبوا عن سؤال: لماذا استخدمت الصين «الفيتو»، وهي لم تكن في حاجة إليه؟ ماذا حصل لحجم العلاقات، والمصالح المشتركة بين العرب، ولا سيما الخليجيين، مع الصين؟ ثم إن الموقف السعودي الحالي من النظام السوري تشترك معها فيه دول عربية كثيرة. لكن هناك دول عربية مترددة، أو خائفة، وهو ما يقتضي العمل على تبديد مخاوفها. وقبل ذلك وبعده، وحتى تضاعف المملكة من صدقية موقفها، عليها أن تبادر إلى حركة إصلاح سياسي في الداخل يكون لها صدى في العالم العربي. والسعودية مؤهلة لذلك بعد أكثر من أربعة عقود من التنمية الاقتصادية والاجتماعية. تتمتع المملكة في خضم الربيع العربي باستقرار مكين. وهي كما قال الملك عبدالله، الجمعة الماضي في حديثه إلى أعضاء الحوار الوطني «وطنكم مثل ما أنتم شايفينه... يعني الأمور إن شاء الله هادية، ومستقرة...». اجتماع التنمية مع الاستقرار، وظروف الربيع العربي، يمثل فرصة لإصلاح طموح، يكون تحت السيطرة، ويحقق أهداف الدولة والشعب معاً، ويضاعف من الاستقرار الأمني والسياسي. الإصلاح في الداخل، والعمل على دفعه وتشجيعه في المحيط العربي يكمل بعضه بعضاً. وهو مسؤولية لا تتحملها إلا دولة كبيرة بحجم المملكة. كانت السعودية أحد الأضلاع الأربعة التي يستند إليها ما كان يعرف بالنظام الإقليمي العربي. إلى جانب السعودية كانت العراق، ومصر، وسورية. تغير المشهد كثيراً منذ غزو الكويت، وحتى الربيع العربي. بقيت السعودية هي الدولة الوحيدة المستقرة. وهذه بقدر ما أنها امتياز، إلا أنها مسؤولية أيضاً. والاستقرار يعني القدرة والشجاعة على امتلاك زمام مبادرة الإصلاح، وخوض غمارها بكل ثقة. والشعب السعودي، كما قال الملك، «شعب يفهم ما له وما عليه، ويقدر موقفه فعلاً». * كاتب وأكاديمي سعودي.