نعيش اليوم في عالم تسوده الكثير من الأهواء وازدواجية المعايير. فالدول الكبرى، وعلى وجه الخصوص، الولاياتالمتحدة وبعض الدول الغربية المهيمنة على الساحة الدولية، يكيلون لمنْ يشاءون من الشعوب الأخرى بمكيالين. فتجدهم يدعون بكل حماس إلى تطبيق ما يُسمونه بالديمقراطية أو خيار الأكثرية، وهي حرية الشعوب في اختيار ممثليهم وأركان دولهم. وعندما تظهر النتائج مخالفة لأهوائهم ورغباتهم ينقضُّون عليها بكل ما أوتوا من قوة وشراسة ليفسدوا ما نادوا هم أنفسهم بتكوينه. وكلنا نتذكر ما حصل للشعب الجزائري في أوائل التسعينيات الميلادية عندما حاول ممارسة نوع بسيط من الديمقراطية في الحكم بناء على التوصيات والدعايات الغربية. ونجحوا في ذلك حينما فازت جبهة الإنقاذ في انتخابات حرة نزيهة بعد أن اختارتها الأغلبية من أفراد الشعب، ولكن لأن الفئة التي فازت بثقة أكثرية الأصوات كانت تغلب عليها الميول الإسلامية، لم يُعجب ذلك الدول الغربية، خوفًا من أي شيء اسمه الإسلام. وكانت النتيجة أن أطاحوا بجبهة الإنقاذ، ولم يتركوا لها أي مجال لتبرهن على أنها أفضل منْ يتولى أمور البلاد في ذلك الوقت. وكان لذلك الحدث صدى كبير في الأوساط العربية لدرجة أن كل منْ تبين أن له ميولاً إسلامية حُرم من إنشاء حزب سياسي أو توَلي منصب له أهمية في البلاد، حتى إن الحكومات العربية الدكتاتورية وجدتها فرصة لإبعادهم عن المنافسة عن طريق سن القوانين الجائرة التي كانت تمنع تكوين أحزاب سياسية تحت مُسمى ديني، رغم علمهم بأن هناك أكثر من دولة تتنافس فيها على الحكم أحزاب وتجمعات دينية أو تحت أسماء دينية. وليتها كانت كلها دينية معتدلة، فمنها ما هو شديد التطرف والتشدد مثل حزبي الليكود وشاس الصهيونيين في إسرائيل اللذين يحكمان الآن دولة إسرائيل. والدولة الإيرانية يُسيطر على أمور الحكم فيها بالكامل إسلاميون يميلون إلى التطرف والانتماء لطائفة التشيع الإثني عشرية، على الرغم من وجود أقليات داخل إيران تتبع مذاهب أخرى. ولم نسمع أن تلك الدول التي تُعارض إشراك الإسلاميين في الحكم حتى في بلادهم الإسلامية قد اعترضت على وجود أحزاب إسرائيلية دينية ليس فقط موغلة في التطرف بل هي أيضا قمة في الغطرسة والعدوانية. وهناك أيضًا بلاد تحكمها أحزاب مسيحية الديانة، وفيها الكثير من المتطرفين المؤثرين في سياسة دولهم. ولكن الدول التي كانت تظهر اعتراضًا على تسلم ذوي الميول الإسلامية زمام أمور الحكم في بلادهم لا ترى بأسًا من حكم المتدينين من الديانات الأخرى، وهو تناقض عجيب. ولكن، ألا ترون أنه قد لاح في الأفق بوادر عصر جديد مع بداية انبزاغ ما يُطلق عليه ''الربيع العربي''؟ فعندما أزيح كابوس بعض الحكام العرب الذين أمضوا أكثر من نصف أعمارهم رؤساء لبلدانهم، يحكمون شعوبهم بيد من حديد، وينهب الموالون لهم أرزاق العباد في وضح النهار، تغيَّر كل شيء. فأصبح، بقدرة قادر، الباب مفتوحًا لأي حزب أو تجمع جماهيري مهما كانت انتماءاته للدخول في معركة انتخابات المجالس البرلمانية والمراكز الرئاسية. شمل ذلك ما يُطلق عليهم الإسلاميون والعلمانيون والمستقلون، وسَمِّهِم ما شئت. واللافت للنظر أن الدول التي كانت تدُسُّ أنفها، بمناسبة وفي غير مناسبة، في الشؤون السياسية للبلاد الأخرى، لم تُحرك ساكنًا وهي تُشاهد جحافل الإسلاميين تتحرك نحو الاستيلاء على مقاليد الحكم عبر صناديق الاقتراع. وربما يعود سبب ذلك إلى عنصر المباغتة، إذ لم يتوقعوا ما حدث بهذه السرعة والكفاءة. ولكن في الواقع أن تلك التجمعات التي يصفها الإعلام بأنها تنتمي ''مجازًا'' إلى جماعات إسلامية، يبدو واضحًا أنها تُحاول وبقوة إبعاد شبهة التطرف عنها. ولعلها فرصة ذهبية ليبرهن المنتمون إلى تلك الفئات الإسلامية المبدأ أنهم إذا لم يكونوا أفضل من منافسيهم فهم على الأقل ليسوا أسوأ منهم. ومن المأمول أن يتحلى مرشحو الأحزاب الإسلامية عندما يتسلمون أمور الحكم والقيادة بالحكمة والأمانة والعدل وحسن الأداء، امتثالاً لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف الذي من المفروض أنهم يتمسكون به. وعليهم أن يتقبلوا النقد الهادف، ويكونوا حذرين من ردة فعل المناوئين لكل ما هو إسلامي. ولا مانع على الإطلاق من معالجة أمور المخالفين لهم بالحكمة والإقناع بدلاً من العنف والمواجهة، أو كما قال تعالى في سورة النحل: ''ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن''. وهناك مَنْ يعتقد أن إشراك مَنْ يسمَّون بالإسلاميين في الحكم سيساعد حتمًا على التقليل من أهمية المتطرفين منهم. ومثلنا الأعلى هي دولة تركيا الحديثة. فعلى الرغم من أن الحزب الحاكم فيها معروف بانتمائه إلى جماعة الإسلاميين، إلا أنه استطاع بحكمة رجب طيب أردوغان وحنكة قيادته أن يتعامل مع العلمانيين الذين كانت لهم صولات وجولات منذ أن ورثوا السيطرة من زمن كمال أتاتورك، على قوة تأثيرهم وشراستهم، حتى استطاع أن يتغلب عليهم ويكسب تأييدهم بقوة القانون. ووصل حزب العدالة والتنمية بالدولة التركية إلى مستوى اقتصادي وصناعي وتعليمي مرموق، واستقرار تتمناه معظم دول العالم. ولم تكن ماليزيا، وهي دولة إسلامية بكل المقاييس أقل حظًّا من تركيا من حيث الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي، بفضل الله ثم بجهود المخلصين من أبنائها أمثال مهاتير محمد، صانع النهضة الماليزية الحديثة. ولعله من نافلة القول أن نذكر أن مهاتير محمد، ذلكم الرجل المثالي القدير الذي تخلى عن الحكم طواعية منذ سنوات عدة، كان أيضًا يفتخر بأنه مسلم محافظ وغيور على دينه. وآفة الحكم التطرف في أي اتجاه، وخير الأمور الوسط.