أحمد بن عثمان التويجري - الحياة اللندنية في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن الميلادي الماضي، كان مهرجان الجنادرية في مدينة الرياض ملتقى لكثير من علماء الأمة ودعاتها ومفكريها وكتّابها بجميع أطيافهم، كانوا يأتون ضيوفاً على المملكة العربية السعودية بوجه عام، وعلى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز (الذي كان في ذلك الحين ولياً للعهد ورئيساً للحرس الوطني) بوجه خاص. في سنة من السنوات المشحونة بالأحداث كان أحد ضيوف المهرجان زعيم حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي، كانت علاقة حركة النهضة بالحكومة التونسية تردت، وكان كثير من كوادرها يملؤون السجون التونسية، لم يعلم النظام التونسي عن وجود الشيخ راشد في المملكة إلا بعد وصوله إلى الرياض، ثارت ثائرة النظام وحاول بكل السبل إقناع المملكة بتسليم الشيخ راشد، أو إخراجه من المملكة في أقل الأحوال، كان موقف الملك فهد - رحمه الله - وموقف خادم الحرمين الشريفين واضحاً وحازماً، خلاصته أن الشيخ راشد ضيف على المملكة، وواجب المملكة تجاهه تمليه القيم الإسلامية أولاً، والتقاليد العربية ثانياً، ولا شيء غير ذلك، ولكي لا يشعر الشيخ راشد بأي حرج فقد خصة الملك عبدالله بن عبدالعزيز بعناية خاصة، وحرص على إشعاره من خلال كثير من اللفتات أنه ليس ضيفاً ثقيلاً، وإنما صاحب دار وبين أهله وذويه، من تلك اللفتات النبيلة أن الملك عبدالله دعا الشيخ راشد إلى لقاء خاص في منزله امتد لما يقرب من ساعتين، كان لي شرف المشاركة في ذلك اللقاء الذي لم يحضره أي أحد آخر على الإطلاق، كان اللقاء في نظري تاريخياً بكل المقاييس، إلى جانب شكر المملكة والملك عبدالله على الموقف النبيل تجاهه. تحدث الشيخ راشد عن نظرة الحركات والتنظيمات الإسلامية الكبرى إلى المملكة، وعن حقيقة أن الغالبية العظمى منها تعرف حق المعرفة مكانة المملكة ودورها المحوري في الأمة وفي العالم وتقدره، وأنها حريصة كل الحرص على توثيق عرى التعاون بينها وبين المملكة على جميع المستويات، بل إنها تعد نفسها امتداداً استراتيجياً للمملكة، كما تحدث عن أن حركة النهضة، على وجه الخصوص، ترى أن المملكة أقرب الدول الإسلامية نظاماً ومجتمعاً إليها، وأنها تسعى وتطمح إلى تقوية وتنمية الجوامع المشتركة بين المجتمعين التونسي والسعودي بوجه عام، وبين حركة النهضة والمملكة بوجه خاص. في سياق الحوار الفكري المتألق والراقي والتاريخي، الذي دار بين الملك عبدالله والشيخ راشد، تحدّث الشيخ راشد عن أن الصداقة والعلاقات المتينة، سواء بين الدول، أو بين الحركات، أو بين الدول والحركات، يجب أن تتيح مجالاً للاختلاف في بعض المواقف، وأن تسمح لتغاير الاجتهادات بين الحين والحين، خصوصاً في غير المبادئ والكليات، فليس من الواجب ولا من الضروري أن تكون المواقف والرؤى بين الإخوة والحلفاء والأصدقاء متطابقة في كل مسألة وفي كل حين. في لحظة من لحظات التجلي في ذلك الحديث الفكري المتبادل قال الشيخ راشد إن حركة النهضة تريد وتسعى بكل ما تملك لأن تكون صديقة وحليفة للمملكة، حكومة وشعباً، وإنها تريد أن تكون أخوّتها وصداقتها مع المملكة من النوع الذي يتيح المجال لاختلاف الاجتهادات وتباين المواقف في بعض الأحيان، فهي (أي حركة النهضة) لا تقبل أن تكون عميلة أو مسيطراً عليها من أي أحد. كان تعليق الملك عبدالله على كلام الشيخ راشد مشرقاً إشراق نبله وشهامته وأصالته، إذ قال: «يا أخ راشد لو كنت أعلم أن حركة النهضة، أو أنك ممن يقبلون أن يكونوا عملاء لما رضيت أن أقابلك على الإطلاق، ولما دعوتك إلى المملكة، ولما خصصتك بهذا اللقاء». في طريق العودة من اللقاء كان الشيخ راشد متأثراً كثيراً بما سمعه من الملك عبدالله، وما اكتشفه عن المملكة ومواقفها، وكان من ضمن ما قاله لي إن من أوجب الواجبات أن تعرف الأمة حقيقة المملكة وحقيقة هذا العربي الأصيل والزعيم الكبير. استرجعت هذه الذكريات القديمة بعد أن تابعت ما نُسب إلى زعيم حركة النهضة التونسية الشيخ راشد الغنوشي من أقوال عن دول الخليج خلال الحديث الذي ألقاه في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي كذّبه الشيخ راشد جملة وتفصيلاً، بحسب ما نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» في عددها رقم «12072»، إذ قال: «أنفي هذه التصريحات جملة وتفصيلاً»، وأضاف: «إنها ملفقة استهدفت الإساءة إلى علاقاتنا مع الولاياتالمتحدة والدول الغربية والعربية، خصوصاً دول الخليج، ونحن حريصون على إقامة علاقات جيدة مع كل الدول العربية، ولا سيما دول الجوار المغاربي والخليج، ولذلك استأنا منها واعتبرناها خبيثة وتكيد إلى هذه العلاقة للإيقاع بين الأشقاء والإخوان». وقد أكد هذا الموقف أيضاً القيادي في حركة النهضة السيد منذر العيادي، الذي كان يرافق الشيخ الغنوشي في معهد واشنطن، وذلك في تصريحه لصحيفة «الشرق الأوسط»، المنشور في عددها رقم «12092»، كما أكده وفي عدد الصحيفة نفسه عضو المكتب السياسي والمكتب الإعلامي بحركة النهضة السيد الفرجاني، الذي قال عن معهد واشنطن إنه من «جهات معروفة بميولاتها لإسرائيل، حاولت أن تخلق مشكلة بين الأطراف العربية عن طريق تطويع الكلام ووضعه كأنه موجه لبلدان الخليج»، والذي قال عن علاقة حركة النهضة بدول الخليج: «هم إخواننا ولن نقوم بشيء يعكر صفو هذه البلدان، ولا نسمح لأنفسنا ولا لغيرنا أن يمس بأمن واستقرار هذه البلدان، فأمنها واستقرارها هو من صميم أمننا واستقرارنا، ونحن نريد ونسعى لأن تكون علاقاتنا مميزة جداً بشكل استثنائي ومميز وليس عادياً نتيجة لتقديرنا لجهود هذه البلدان والعلاقة الوطيدة معها بغض النظر عن التفاصيل وبعض الإشكالات التي قد تحدث هنا أو هناك، هم جزء منا ونحن جزء منهم ولا نريد إلا الخير، ونحن واثقون أن بلدان الخليج هي أكبر وأوعى وأكثر حكمة من أن تنطلي عليها هذه الأساليب الخسيسة»، وأكد أن «إسرائيل وبلداً إقليمياً غير عربي حاولا تضخيم المشكلة للوقيعة بيننا وبين بلدان الخليج». لقد عرفت الشيخ راشد الغنوشي عن قرب وشاركته حضور ندوات ولقاءات فكرية كثيرة داخل المملكة وخارجها، وجرت بيني وبينه حوارات في مناسبات غير قليلة، وأستطيع أن أقول غير متردد إنه من أنقى القيادات الإسلامية المعاصرة وأنضجها وأكثرها حكمة، إلى جانب كونه من فلاسفة الأمة ومفكريها الكبار، وهو من أحرص من عرفت على وحدة الأمة ونموها وتقدمها، وقد منّ الله عليه بالجمع بين صفاء الزاهدين ورقتهم، وشجاعة أهل الإيمان وقوتهم، كان معجباً إلى درجة كبيرة بما وجده في المجتمع السعودي من تدين وأصالة، ومكبراً لما نتج عن حركة الإصلاح والتجديد في الجزيرة العربية في المجتمع السعودي من صفاء عقيدة وتمسك بقيم الإسلام وشعائره، كان يرى أن توحيد المملكة العربية السعودية أنجح تجارب الوحدة العربية في تاريخ العرب الحديث، وأن ما تحقق في المملكة من تنمية في جميع المجالات التعليمية والإدارية والصحية والعمرانية درس للأمة وللمصلحين في قيمة الأمن والاستقرار لأي مجتمع. وإن أنس لا أنسى تعليقه في إحدى المناسبات الاجتماعية في الرياض، حين وجه الحديث إلى الحاضرين من السعوديين قائلاً: «إن كثيراً مما اعتدتم عليه في المملكة، وأصبح لديكم من المسلمات التي لا تثير اهتمامكم، هو من أغلا ما تتمناه وتطمح إليه مجتمعات عربية وإسلامية أخرى أبتليت بأنظمة عسكرية أو علمانية محاربة لقيم الإسلام». ليس غريباً أن تكون هذه هي مواقف أحد أهم القيادات الإسلامية المعاصرة تجاه المملكة وتجاه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وليس غريباً أيضاً أن يسعى معهد معروف بميوله الصهيونية إلى الإيقاع بين المملكة وبين من يشكلون امتداداتها الاستراتيجية، وإذا كان هذا ليس غريباً بل متوقعاً في كل حين، فهو متوقع بشكل أكبر ونحن في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الأمة، التي بدأت تتغير فيها موازين الصراع بين العرب وإسرائيل، ولذلك فإننا جميعاً مطالبون بالوعي وبالتصدي لجميع محاولات الأعداء للتفريق بين الإخوة وأهل القدر المشترك. ولمن لا يعرفون المملكة معرفة عميقة أود أن أؤكد لهم أن المملكة التي حرصت منذ نشأتها على توثيق علاقاتها وتنميتها مع جميع الدول العربية والإسلامية حتى التي كانت مناوئة لها، ستكون أحرص على تقوية تلك العلاقات وتنميتها بعد أن تتحرر من الطغيان، وتتولى زمام أمورها أحزاب منتخبة ذات توجه إسلامي تحمل للمملكة الود والتقدير، وتثمن موقعها القيادي والمركزي في الأمة، وتحترم مكانتها الروحية في قلوب كل المؤمنين.