من المعروف أن عالم البشر في كل الأزمنة والأمكنة أخلاط متباينة واتجاهات مختلفة وأنماط متفاوتة، والناس يسيرون في دروب كثيرة متعرجة حينًا ومتشابكة حينًا آخر، وكأنه قد غشي البشرية ظلام متكاثف وليل بهيم، حيث تسير وتسير ويضنيها المسير، ثم لا تصل إلى شاطئ الأمان، ونراها تحدد أهدافًا وتقصد غايات وعندما تشارف الهدف المنشود ينكشف لها عن سراب خادع، ولكن هناك طريق واحد هو المستقيم، فلا ينحرف ذات اليمين ولا ذات الشمال، فتهب عليه الأعاصير من كل جانب وكلما قاربت معالمه على الاندثار ورسومه على البلى شاهدنا رجالًا يقومون بكشف الرمال عنه من جديد، فيوضحون معالمه ويجددون رسومه، حيث يشرق النور من قلوبهم ووجوههم، ويحملون مشاعل النور في أيديهم، ويدعون غيرهم إلى الطريق الموصل إلى الأمن والأمان ويدعونهم إلى النور الذي يضيء القلوب والنفوس. إنها الشخصيات المعتدلة، وهي الشخصية الإنسانية الوحيدة التي توسم بأنها سوية، سوية في صفاتها وخصائصها وآمالها وطبائعها ومقاييسها وموازينها، التي لم تمسخ فطرتها ولم تشوه جبلتها، فتسعى لتكون الإنسان الذي شاءه خالق الكون ومبدع الحياة وفاطر الإنسان، وغيره يجري في الحياة منكس القلب ومشوش الفكر لا يعرف طريقه وسبيله. ولتحقيق مناط هذه الشخصية الفذة فلا بد من إدراك مقاصد الشريعة وتفعيلها، فالبحث في المقاصد مطلب شرعي، حيث فهم القرآن من سياقين، أولهما صريح وثانيهما بالتلميح من خلال تضافر نصوص التعليل في مقامات الإيجاب والتحريم والتحليل، فمن صريحه قوله تعالى: «ألا له الخلق والأمر»، فهي دعوة إلى التدبر والتفكر في آيات الكون والوحي واكتناه أسرار الخلق وحكم الأمر، ومن تلميحه تعليله للأحكام وإبراز الحكمة والمصلحة في نصوص القرآن لينبه عن المقاصد ويربي الأمة على البحث عنها كما هو في القياس عند الأصوليين. وكما عبر الشاطبي عن ذلك بقوله: «إن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل»، والشريعة والعقل كافيان في تقرير المصلحة، حيث قال العز بن عبد السلام: «معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، وذلك معظم الشرائع»، ولذا يقول الطوفي: «الفعل إن تضمن مصلحة مجردة حصلناها، وإن تضمن مفسدة مجردة نفيناها، وإن تضمن مصلحة من وجه ومفسدة من وجه، فإن استوى في نظرنا تحصيل المصلحة ودفع المفسدة توقفنا على المرجح، أو خيرنا بينهما، وإن لم يستو ذلك بل ترجح أحد الأمرين فعلناه، لأن العمل بالراجح متعين». فلا بد إذن من التركيز على المقاصد الكلية للرسالة الخاتمة والشريعة التي جاءت بها مع مراعاة المقاصد الجزئية والتفصيلية دون أن تبقي الفكر الإسلامي المقاصدي حبيس الدائرة الضيقة، حتى لا يحصل الخلل والمضاعفات، ويورث الكثير من التخلف والعجز، والحياة العبثية في المجالات المتعددة، والضلال عن تحديد الأهداف، ومن ثم انعدام المسؤولية وغياب ذهنية المراجعة والنقد والتقويم، لأن الأصل في العقل المقاصدي أن يكتشف الطاقات، فيضع لها الخطة والهندسة المناسبة، ويؤصل المنطلقات، ويحدد المسؤوليات، ويبصر بمواطن القصور والخلل، ويكتشف أسباب التقصير، ويدفع للمراجعة والتقويم، واغتنام الطاقة والتقاط الفرص التاريخية، والإفادة من التجربة، ويكسب العقل القدرة على التحليل والتعليل، والاستنتاج والقياس، واستشراف المستقبل في ضوء رؤية الماضي، ويحمي من الإحباط والخلط بين الإمكانيات والأمنيات، فغاية المقاصد انعكاسها على جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية، ويحقق الانسجام بين قوانين الكون ونواميس الطبيعة وسنن الله في الأنفس، فالفائدة من المقاصد يمكن تحصيلها لكل من تشبع بها أو تزود بنصيب منها، وتكون فائدتها بقدر علمه وفهمه لمقاصد الشريعة، واعتماده عليها في فكره ونظره. والفكر المقاصدي فكر ترتيبي وكذلك فكر تركيبي، وذلك بالاستقراء والتركيب، كقيامها على المفاضلة والترتيب، وهذا هو الضمان للتوازن بين الثوابت والمتغيرات وبين المرونة والصلابة والليونة والصرامة، لأن المقاصد أشبه بالهيكل العام لعموم الأحكام الواقعة والمتوقعة، وهي الغايات والأهداف الكلية التي يرجع إليها من اختلطت عليه الأمور أو ضلت به الشعاب خصوصًا عند غلبة العصبيات والتقليد والإغراق في الفروعيات الخلافية، ومن ذلك أن العمل بالاحتياط سائغ في حق الإنسان في نفسه لما فيه من الورع واطمئنان القلب، أما إلزام العامة به واعتباره منهجًا في الفتوى ففي ذلك مخالفة للمقاصد ويفضي للحرج والمشقة، ولذا فالوعي المقاصدي من معالم التجديد والإصلاح في كل زمان ومكان وحال.