أن يحمل إنسان عادي المفاهيم العرفية الاجتماعية العنصرية ويؤمن بها؛ فهذه مصيبة، ولكن تتحول هذه المصيبة إلى كارثة وطامة كبرى عندما يتولى هذا الإنسان العادي منصبا حكوميا يتحكم من خلاله بمصائر وأرزاق المجتمع الشطر الأول من السؤال أعلاه مفهوم ومكرر ويمر علينا يومياً إن لم يكن كل لحظة نعيشها، فكأن كون الأنثى في مجتمع تقليدي هو أقرب للغمة منه للنعمة، حيث مازال وضعها مربكا لمجتمعها التقليدي. ويبدو أنها معضلة أبدية تكابد الأنثى وجودياً منذ القدم تحت نير الأعراف التقليدية الظالمة، قال تعالى: "وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم". والآية الكريمة ذم وتوبيخ للتقليدية العمياء التي تحط من إنسانية الإنسان لمجرد جنسه أو عرقه، وتبشر بمنظومة قيم إنسانية عادلة، جديدة على المجتمع التقليدي لتنقله من مصاف الأمم المتخلفة إلى مصاف الأمم المتحضرة، التي يليق بها حمل الرسالة السماوية الشاملة والخاتمة لكل الرسالات السماوية. الرسول صلى الله عليه وسلم، ضرب أنصع وأكمل مثل على ذلك، من حيث فخره وحبه لابنته فاطمة رضي الله عنها وأرضاها ومن على منبر مسجده النبوي المطهر؛ حرصاً منه على جعلها سنة يقتدي بها رجال أمته. وأن تكون كذلك من قبيلة "غير معترف بها" وفي مجتمع تقليدي فكارثة أخرى تزيد من المعاناة الإنسانية التي من الممكن أن يمر بها إنسان تلك القبيلة من جراء الحط من كمال آدميته في نظر العرف التقليدي، تجعله إما يفقد الثقة بصلاح ذاته أو يفقد الثقة بصلاح مجتمعه أو بكليهما معاً. وهذا العرف التقليدي تجاه كمال إنسانية الإنسان، سعى الإسلام جاهداً إلى نزعه من أعراف المجتمع التقليدي العربي القديم واستبداله بمنظومة قيم أخلاقية إنسانية رفيعة ومتحضرة، حيث قال تعالى: "يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير". فالأمة أي أمة؛ لا تستطيع حمل أي رسالة أو مشروع حضاري للعالم، ما لم تكن صادقة مع ذاتها قبل غيرها، حيث تكون هي أول من يؤمن حقاً بقيم رسالتها التي تتبناها وتبشر بها وتطبقها على أرض واقعها بدون تحريف أو تزييف. وهذا مصداق لقوله تعالى مؤكداً في آخر الآية الكريمة: "إن الله عليم خبير"، أي عليم خبير بسننه الكونية التي تحرك التاريخ وتفرز منها الطيب الذي ينفع الناس من الخبيث الذي يضر بهم. هذه الكارثة الأخلاقية والإنسانية التي تجعل من الأنثى التي تنتمي إلى قبيلة "غير معترف بها" عبئا عليها يخرجها من دائرة الحياة برمتها؛ صدمتنا بها متصلة على برنامج "لست وحدك" الذي يقدمه الزميل الإعلامي المتميز والقدير سعود الجهني ويبث من إذاعة البرنامج الثاني بجدة، عبر أثير إذاعة المملكة، حيث اتصلت على البرنامج المواطنة السعودية أم محمد 27 سنة من مدينة الخفجي، تشتكي من تعطيل رئيس مركز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمدينتها لمعاملة ترخيص مشغل لها لخياطة العباءات النسائية الذي قامت بتجهيزه كاملاً، بعد أن حصلت على قرض حسن من صندوق المئوية، وتنتظر فقط إكمال إجراءات ترخيص المشروع لتبدأ العمل من خلاله. وعلى حسب روايتها لقصتها التي أكدها الزميل سعود الجهني من خلال اتصالاته، بأن جميع الدوائر الحكومية المعنية بالخفجي لم تعترض على منحها رخصة لمشروعها ما عدا مركز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي وقف عثرة كأداء أمامها. والمفاجأة أو الطامة الكبرى عندما قالت أم محمد إن رئيس مركز الهيئة وقف ضد منحها ترخيصا لمشغلها بسبب كونها من "قبيلة غير معترف بها"، وقامت أم محمد برفع تظلمها للمحافظ ولم يجد ذلك نفعاً، حيث لم يستجب رئيس مركز الهيئة لتوصيات المحافظ بمنحها ترخيصا. فرفعت أم محمد - بحسب روايتها - تظلمها كذلك لأمير المنطقة الشرقية صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن فهد، وتمت التوصية بمنحها رخصة لمشغلها ولم يستجب كذلك رئيس مركز الهيئة بالخفجي لذلك حتى ساعة بث شكوى أم محمد من خلال برنامج "لست وحدك" الذي أكد كلامها الزميل المتألق الجهني. ويبدو أن رئيس مركز هيئة الخفجي لم يكن وحده الذي يشكك بعفة الأنثى من "قبيلة غير معترف بها"، حيث أوردت أم محمد أن شخصاً من إمارة المنطقة الشرقية اتصل بها ليتوسط لها عند رئيس مركز الهيئة وطلب منها أن تتعهد له بأن تتوب. هذا مستغرب، ولكن غير المستغرب أن رئيس مركز الهيئة والشخص الذي كلمها من الإمارة ينتميان لنفس القبيلة التي بالطبع معترف بها، أي يحملان نفس المفهوم العرفي المتعالي والمتطهر باسم القبيلة "المعترف ضد القبيلة اللا معترف بها". من خلال قصة أم محمد، يبدو لنا واضحاً الخلط الشنيع بين العرف الاجتماعي المضاد لقيم وأخلاق الإسلام وبين قيم وأخلاق الإسلام، إن لم نقل تم استبدال الأول بالأخير وتغطية الأول بمشروعية الأخير وتمريره باسمها عند البعض إن لم يكن الكثير منا. وهذه ليست فقط تعبر عن أزمة ثقافية في تحديد المفاهيم وفرز العرفي الجاهل منها من الأخلاقي الواعي بقيم الإنسان والخبير بها ولكن أيضاً أخلاقية من ناحية الإدانة المسبقة للمواطن بسبب جنسه وعرقه وحتى عمره. حيث تمت إدانة أم محمد بسبب، كونها أولاً أنثى، ثانياً من قبيلة "غير معترف بها" وثالثاً على حسب الرواية التي سمعناها، أن عمرها 27 سنة ولم تتزوج! أي لا تستحق أي تصريح يمنحها الحياة والاستقلالية، فهي تمثل بالنسبة للعقلية العرفية القبلية وباء يجب التصدي له. أن يحمل إنسان عادي المفاهيم العرفية الاجتماعية العنصرية ويؤمن بها، فهذه مصيبة، ولكن تتحول هذه المصيبة إلى كارثة وطامة كبرى عندما يتولى هذا الإنسان العادي منصبا حكوميا يتحكم من خلاله بمصائر وأرزاق المجتمع، حسب ما تمليه عليه ثقافته العرفية الاجتماعية العنصرية النتنة، لا أنظمة وقوانين الدولة التي تتعامل مع جميع المواطنين بعدل وسواسية الذي ائتمن عليها والذي وضع في منصبه لخدمتهم ورعايتهم وتسهيل العقبات أمامهم. والسؤال الذي يطرح نفسه دوماً علينا هو: إلى متى يظل الخلط بين مفهوم المعروف الاجتماعي البائد والمنتمي لما قبل الدولة وحتى لما قبل الإسلام، والمعروف الديني وأنظمة وقوانين الدولة التي تتضاد مع المعروف الاجتماعي البائد، في أذهان البعض؟ وأين أجهزة الرقابة الحكومية التي تراقب عمل وأداء الوزارات والمؤسسات والهيئات الحكومية، عن مثل هذه التجاوزات التي ترتكب علانية بحق إنسانية وكرامة ورزق المواطن من قبل جهاز حكومي. الفساد لا يعني فقط سرقة المال العام، ولكن أيضاً قطع أرزاق المواطنين، التي هي مدعاة لإفقارهم ونشر باقي أنواع الفساد والتشوهات في المجتمع. السؤال الآن: لماذا تم حذف مقطع اليوتيوب الذي نقل معاناة أم محمد؟ وما الفائدة سوى حجب المعاناة عن المسؤولين؟