إسماعيل ياشا - الاقتصادية السعودية الحكومة التركية برئاسة رجب طيب أردوغان تسعى إلى تعزيز حرية التعبير وحرية الصحافة وحرية النشاط السياسي وغيرها من الحريات العامة، سواء في إطار جهود الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو من أجل تحقيق مطالب الشعب التركي وتطلعاته. لكن هناك صورة مغايرة لوضع الصحافة وحرية التعبير في تركيا تعطيها الاعتقالات التي طالت عددًا من الصحافيين المعارضين في قضية محاولة الانقلاب على الحكومة. تحتجز تركيا في الوقت الراهن - وفقًا لجمعية الصحفيين التقدميين التركية - 66 من العاملين في حقل الإعلام؛ جزءٌ منهم متهمون بالانتماء إلى شبكة أرجنيكون الإجرامية، وجزء آخر متهمون بالانتماء إلى حزب العمال الكردستاني. ومن ثَمَّ، فلا بد من معرفة حقيقة هذه الشبكة ودور الصحافيين في الجرائم التي تنسب إليها، حتى تتضح الصورة في قضية الصحافيين المعتقلين. وهؤلاء الصحافيون لم يتم اعتقالهم بسبب آرائهم أو حتى تعاطفهم مع شبكة أرجنيكون الإجرامية، بل التهمة الموجهة إليهم هي الانتماء إلى منظمة إرهابية دموية، والقيام بدور فاعل في تحقيق أهداف تلك المنظمة وتنفيذ خططها. شبكة أرجنيكون الإجرامية تتكون من الضباط ورجال الأمن والمخابرات والسياسيين ورجال الأعمال والنقابيين والأساتذة، حتى الفنانين والمثقفين، إضافة إلى الإعلاميين. ودور الإعلاميين في هذه التشكيلة دور محوري ومكمِّل لدور العسكر. ولولا التحريض الإعلامي وتضليل الرأي العام لتوجيه الجماهير نحو قناعة معينة في أي محاولة انقلاب لوجد الانقلابيون صعوبة بالغة في السيطرة على الوضع وفشلت المحاولة. التحقيقات مع المعتقلين في قضية ""أرجنيكون"" والوثائق التي ألقي القبض عليها كشفت أن الشبكة كانت تخطط للقيام بسلسلة هجمات دموية وعمليات اغتيال لإثارة الفوضى والاضطرابات والقلاقل في البلاد، وتأليب الشارع ضد الحكومة تمهيدًا لانقلاب عسكري. وكان من بين الأهداف قصف مسجد محمد الفاتح في إسطنبول، واغتيال ناشطين أكراد ومثقفين وكتاب أتراك كالروائي التركي الحائز جائزة نوبل للأدب أورهان باموك، إضافة إلى الجرائم الأخرى التي يشتبه في أن هذه الشبكة وراء ارتكابها، مثل اغتيال القاضي مصطفى يوجل أوزبلغين، أحد قضاة المحكمة الإدارية العليا، في 17 أيار (مايو) 2006، واغتيال الصحافي التركي الأرمني الأصل هرانت دينك في 19 كانون الثاني (يناير) 2007. قوات الأمن التركية ألقت القبض على عدد من قادة شبكة أرجنيكون الإجرامية ومنظريها، بينهم ضباط كبار وزعماء سياسيون، ولأول مرة في تاريخ تركيا الحديثة تم استجواب رئيس أركان متقاعد - وهو الجنرال إلكر باشبوغ - بصفته مشتبهًا فيه، وأحيل إلى المحكمة، وأمرت المحكمة باعتقاله وسجنه بتهمة قيادة تنظيم بهدف الإطاحة بالحكومة التركية. وفي اليوم الذي اُستُجوِب فيه الجنرال إلكر باشبوغ وأحيل إلى المحكمة، كانت في إسطنبول جلسة أخرى يمثل فيها الصحافيان الشهيران نديم شينير وأحمد شيك مع عدد من زملائهم الآخرين بتهمة الانتماء إلى شبكة أرجنيكون الإجرامية، ورفضت المحكمة إطلاق سراحهم، وقررت استمرار احتجازهم. هذه القضية هي الأكثر استغلالاً في موضوع الصحافيين المعتقلين، حيث نظَّم زملاء شينير وشيك فعاليات عدة للتضامن معهما والمطالبة بإطلاق سراحهما، إلا أن الادعاء يقول إن ملف الصحافيين المعتقلين يحتوي على كثير من الأدلة كتسجيل المكالمات والمراسلات مع أعضاء الشبكة. مهنة الصحافة كأي مهنة أخرى لا توفر لصاحبها حق الإجرام ومخالفة القانون، ولو ارتكب صحافي أو طبيب أو ناشط سياسي أو حقوقي جريمة قتل أو سرقة أو أي جريمة أخرى، فهل من حقهم أن يطالبوا القضاء بإطلاق سراحهم لأنهم ينتمون إلى مهن معينة؟! وهل يصح أن يقال إن اعتقالهم جاء بناء على مهنهم؛ أي أنهم اعتقلوا لكونهم يمارسون الصحافة أو الطب أو الأنشطة السياسية أو الحقوقية، أم أن الصحيح أن يقال إنهم اعتقلوا لارتكاب جريمة قتل أو سرقة؟! المشكلة أن هناك صحافيين وناشطين يتسترون وراء حرية الصحافة والتعبير وحرية النشاط السياسي بهدف الإفلات من الملاحقة القانونية للجرائم التي شاركوا في ارتكابها، بدعوى أنهم يُلاحقون فقط بسبب أنشطتهم السياسية المعارضة للحكومة في محاولة للفت الأنظار عن السبب الرئيس في ملاحقتهم، وأنهم يحاكمون لأنشطة جنائية، ويساعد زملاؤهم على ترويج هذه الدعاية عبر الصحافة التركية والعالمية، ثم يأتي آخرون يلتقطون هذه المعلومة المضللة كحاطب الليل، ويكررون المزاعم كالببغاء دون أن يتحققوا من صحتها أو يبحثوا عن تفاصيلها، ويصوِّرون تركيا على أنها دولة بوليسية تتصدر دول العالم بأكملها في قمع الحريات. مبدأ فصل السلطات من أسس الأنظمة الديمقراطية، ولا يجوز للسلطة التنفيذية التدخل في سير المحاكمات لضمان استقلالية القضاء، ولا تتحمل الحكومة مسؤولية الأحكام القضائية. واستخدام وسائل الإعلام كسلاح في قضية الصحافيين المعتقلين للتأثير في القضاء لا يختلف كثيرًا عن لجوء العسكر إلى التهديد بقوة السلاح في محاكمة الضباط. يجب أن يكون جميع المواطنين سواسية أمام القانون، وأن تأخذ المحكمة مجراها الطبيعي دون أي تدخلات. المفروض ألا يقع المدافعون عن حقوق الإنسان وحرية الصحافة والتعبير في هذا الفخ، وألا يطالبوا بإطلاق سراح المتهمين من دون محاكمة عادلة بحجة أنهم صحافيون، كما أن الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات يعني مكافحة جميع الشبكات الإجرامية التي تسهم في قمع الشعوب ومصادرة إرادتها، وتكرِّس الفساد، وتعرقل جهود الإصلاح، وتعمل من أجل استمرار سيطرة ونفوذ العسكر.